| محمد نور الدين
حتى تاريخ الـ31 من آذار من العام المقبل، موعد الانتخابات البلدية في تركيا، ثمّة متّسع وافر من الوقت لتحديد أسماء المرشّحين، ورسم أُطر التحالفات الحزبية. ولكن، بالانطلاق من خريطة الانتخابات النيابية والرئاسية التي جرت يومَي الـ14 والـ28 من أيار الماضي، ربّما تكون الأمور أقرب إلى الوضوح لجهة الاحتمالات الممكنة. وكانت التوقعات أشارت، بعد صدور نتائج الانتخابات الأخيرة، إلى احتمال بدء مرحلة «النقد الذاتي» من جانب الأحزاب، ولا سيما تلك المنضوية في إطار «تحالف الأمة» المعارِض، وفي مقدّمها «حزب الشعب الجمهوري»، في ظلّ رفع بعض أركانه، وخصوصاً رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، شعار «التغيير». وقد بدا، في حينه، أن احتمال التغيير قائم، بعد فشل رئيس الحزب، كمال كيليتشدار أوغلو، في الفوز أمام الرئيس الحالي، رجب طيب إردوغان، وكونه مستمرّاً في موقعه على رأس الحزب منذ عام 2010، علماً أن هذه الفترة، وفق المعايير التركية، تُعدّ «قصيرة»؛ إذ إن زعماء الأحزاب يبقون عقوداً على رأس أحزابهم، من مثل سليمان ديميريل، وبولنت أجاويد، ونجم الدين أربكان، ودولت باهتشلي، فيما يمضي إردوغان في هذه الطريق، مع مرور 22 عاماً على ترؤّسه «حزب العدالة والتنمية» (تأسّس في عام 2001).
هكذا، بدأت إشارات التغيير داخل «حزب الشعب الجمهوري» تتزايد، فيما ظلّ إمام أوغلو، حتى وقتٍ قريب من حسم اسم مرشّح المعارضة، يُعتبر الشخصية الأوفر حظّاً لإلحاق الهزيمة بإردوغان، إلّا أن عقبات قضائية، دفع بها الأخير، حالت دون ترشّحه. على أيّ حال، لم تكتمل معركة التغيير داخل الحزب، ما حدا بإمام أوغلو، أخيراً، إلى إعلان الترشُّح مجدّداً لرئاسة بلدية إسطنبول. ولعلّ من أبرز العوامل التي دفعت الرجل إلى اتّخاذ قراره الآنف، يتمثّل في تكتُّل «النواة الصلبة» داخل «الشعب الجمهوري»، والتي ترى في كيليتشدار أوغلو شخصية ناجحة وذكية، على رغم الهزائم التي تعرّض لها الحزب. وفي الوقت نفسه، يرى «الشعب الجمهوري»، كما إمام أوغلو، أن احتفاظ المعارضة ببلدية إسطنبول الكبرى (كما أنقرة) يشكّل هدفاً استراتيجيّاً، إذ يمكّن الحزب من البناء عليه للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2028، حين تكون حظوظ إمام أوغلو لخوض الانتخابات الرئاسية أعلى، فيما لو احتفظ «الشعب الجمهوري» برئاسة البلدية. وبذلك، طويت صفحة التغيير داخل الحزب، فيما بات إمام أوغلو أول شخص يعلن ترشّحه لرئاسة أهمّ بلدية في تركيا.
غير أن ما يَصدر من مواقف عن جبهة المعارضة «السابقة»، لا يبشّر «خيراً». فمرال آقشينير التي تترأّس «الحزب الجيّد»، خرجت بمواقف يمكن عدُّها محبطة بالنسبة إلى التحالف، إذ اقترحت أن تخوض الأحزاب الانتخابات البلدية منفردة من دون تحالفات، مؤكدةً أنها ستتقدّم بمرشّحين مستقلّين لكلّ البلديات. وفي ما يخصّ بلديتَي إسطنبول وأنقرة، ستنظر آقشينير في أمر مَن ستدعم، عندما يحين الوقت. وهي، بإعلانها المتقدّم، إنّما تريد القول إنها لن تبقى جزءاً من تحالف يدعمه «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي. ولا شكّ في أن هذا الاقتراح ووجِه بنقد من جانب الأكراد الذين ذكّروا الجميع بأنه لولا الأصوات المؤيّدة لحزبهم، لَمَا فاز إمام أوغلو في إسطنبول، ولا منصور ياواش في أنقرة.
والظاهر أن ملامح التفكُّك الأولية في جبهة المعارضة، بدأت تترك، منذ الآن، أثرها النفسي على الناخبين المعارضين، وخصوصاً أن بعضهم يحمّل آقشينير مسؤولية عدم فوز كيليتشدار أوغلو في الرئاسة، نظراً إلى تذبذب مواقفها، وقرارها السابق الخروج من التحالف، ومن ثمّ العدول عن هذه الفكرة. كذلك، فإن كيليتشدار أوغلو نفسه، يتحمّل جزءاً من المسؤولية، كونه دخل، قبل دورة الانتخاب الثانية، في صفقات مع أحزاب قومية متطرّفة أثارت استياء الناخبين الأكراد، فامتنع جزء منهم عن التصويت له في الدورة الثانية.
هزيمة المعارضة في انتخابات البرلمان والرئاسة خلقت، كما يَظهر، خيبة أمل كبيرة في أوساطها
وكانت هزيمة المعارضة في انتخابات البرلمان والرئاسة خلقت خيبة أمل كبيرة في أوساطها، بعدما جاء سقف توقّعاتها عالياً. غير أن الاستسلام للأمر الواقع لا يُفيدها بشيء؛ لذا، فهي تحاول أن تكون الانتخابات البلدية المقبلة، ولا سيما في إسطنبول وأنقرة وإزمير وأنطاليا وغيرها، بدايةً جديدة لمرحلة إسقاط «حزب العدالة والتنمية».
ولفت في هذا السياق ما كتبه، في «جمهورييات»، أحد كبار المفكّرين العلمانيين في تركيا، إيمري كونغار، الذي تساءل عمّا إذا كانت المعارضة خسرت الانتخابات البلدية أم ربحتها في إسطنبول منذ الآن. ويقول إن «مَن ينظر إلى الإعلام عموماً، وإلى وسائل التواصل الاجتماعي، يأخذ انطباعاً بأن تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية قد فاز منذ الآن في انتخابات المدينة، وذلك لأسباب عدّة، منها: أولاً، إن قسماً من ناخبي حزب الشعب الجمهوري لن يذهب إلى الانتخابات، لأنه حانق على قيادة حزبه بسبب تحالفاتها السابقة الهجينة. وثانياً، لأن خطاب آقشينير بات يميل أكثر إلى فسْخ التحالف والجنوح إلى لغة قومية أكثر تطرّفاً. وثالثاً، لأن بعض الأحداث، خلال الانتخابات النيابية والرئاسية الفائتة والسجالات داخل المعارضة، أَفقدت إمام أوغلو بعضاً من الثقة التي مُنحت له. ورابعاً، القيود التي تفرضها السلطة على حركة الخدمات التي يقدّمها إمام أوغلو، بحيث تقول السلطة للناس: إذا أردتم خدمات، فاقترعوا لمرشّح حزب العدالة والتنمية. وخامساً، فقدان القضاء استقلاليته والعراقيل القضائية التي وَضعها سابقاً وحالياً أمام احتمال تمكُّن إمام أوغلو من الترشّح للانتخابات البلدية، وهو عامل سيفقد رئيس البلدية الحالي بعض الأصوات حتى لو ترشّح إلى الانتخابات». ويرى كونغار أن «كلّ هذا يضع إمام أوغلو أمام امتحان صعب في مواجهة السلطة، ولا سيما أن حزب العدالة والتنمية سيستفيد من تجربة 2019 لاستخدام كل أنواع الضغط والدعاية لهزيمة الرجل»، متسائلاً أخيراً: «هل يمكن لإمام أوغلو أن ينجح على رغم كلّ هذه العوامل والضغوط؟»، ليجيب: «نعم، يمكن أن يربح إذا أراد الإسطنبوليون ذلك».
وتتكثّف، على جبهة السلطة، اللقاءات بين إردوغان وباهتشلي، اللذين يعملان، وفق وسائل الإعلام التركية، على «استراتيجية انتخابية للبلديات»، ويركّزان على البلديات الكبرى، ولا سيما إسطنبول وأنقرة. وتذكر أوساط «العدالة والتنمية» أن مشهد المعارضة المتشرذم، يدفع تحالف السلطة إلى العمل سريعاً على تقديم مرشّحين وخطط عمل تهدف إلى كسب ثقة الناخبين، على الرغم من أن تحديد أسماء المرشّحين قد لا يتمّ قبل بداية العام المقبل، فيما سيكون المؤتمر العام للحزب، في السابع من تشرين الأول المقبل، محطّة مهمّة لتعزيز ثقة الناخب بالحزب الذي فقد نقاطاً كثيرة في الانتخابات النيابية الماضية. ويحرص «العدالة والتنمية» على التأنّي في اختيار المرشّحين لبلديتَي إسطنبول وأنقرة تحديداً، حتى يكون اختياره دقيقاً وقابلاً لهزيمة إمام اوغلو وياواش (في حال تجديد الأخير ترشّحه عن الشعب الجمهوري). ويراهن أيضاً على أن الوضع الاقتصادي، حتى بداية العام المقبل وموعد الانتخابات البلدية، سيتحسّن، في ظلّ الخطط الجديدة التي وضعها وزير المالية محمد شيمشيك، وحاكمة المصرف المركزي حفيظة إركان.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار