يقول زعيم حزب الشعب الجمهوري التركي كمال كليجدار أوغلو إن السياسة التركية في المنطقة تخدم الأجندة الأميركية ضمن مشروعي الشرق الأوسط الكبير والربيع العربي.
توقَّع البعض أن تشهد العلاقات التركية – الإيرانية نقلة نوعية خلال المرحلة القادمة بعد القمّة الأخيرة بين الرئيسين رجب طيب إردوغان وحسن روحاني، الإثنين الماضي، والتي اكتسبت أهمية إضافيّة، نظراً إلى توقيتها الزمني الذي جاء بعد المصالحة الإسرائيلية – الإماراتية، وما قد يلحق بها من مصالحات أخرى بين تل أبيب وعواصم خليجية وعربية أخرى.
وعلى الرغم من الخلافات العديدة بين أنقرة وطهران، فإنّ الطرفين يعرفان جيداً أن التحالف الإسرائيلي – الإماراتي، بانعكاساته على موازين القوى في الخليج، سوف يخلق لهما معاً مشاكل خطيرة، وخصوصاً إذا نجحت تل أبيب في اختراق الساحة الخليجية عسكرياً واستخباراتياً، وهو ما سيعني أنها ستصبح جارة لإيران على الشاطئ الغربي للخليج ومضيق هرمز (لـ”إسرائيل” تواجد استخباراتي قوي في الهند وأذربيجان؛ الجارتين لإيران)، كما أنها ستحاصر التواجد التركي العسكري في قطر، وهي العقدة الأساسية للتناقضات.
وعلى الرغم من خلافات الدوحة مع أبو ظبي والرياض والمنامة (مع احتمالات المصالحة قريباً)، إلا أنها، ومعها العواصم المذكورة، تستضيف قواعد أميركية استراتيجية هدفها إيران بالدرجة الأولى، وهذا هو حال سلطنة عمان الّتي تستضيف قواعد بريطانية، وتسعى أنقرة إلى بناء قاعدة بحرية فيها (كما هو الحال في ليبيا)، وهي أول دولة خليجية استضافت نتنياهو في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2018.
وتستضيف تركيا بدورها العديد من القواعد الأميركية والأطلسية التي تستهدف إيران أيضاً، وأهمها قاعدة “كوراجيك” شرق البلاد، ومهمّتها رصد تحركات الصواريخ الباليستية الإيرانية التي قد تستهدف “إسرائيل”.
ولم تمنع هذه التناقضات التركية الرئيس إردوغان من الاستمرار في علاقاته مع الرئيس روحاني، وعدم الالتزام بالعقوبات الأميركية على إيران، كما أنه دخل في حوار “إيجابي وبنّاء” لمعالجة الأزمة السورية عبر منصة أستانا، ومعهما الرئيس بوتين، الذي يعيش أيضاً الكثير من التناقضات في العلاقة مع تركيا.
وقد بات واضحاً أن تحقيق التوازن بين التناقضات والمصالح، يعني في الوقت نفسه حنكة الأطراف ومهارتها، والتي يبدو أنها تعي جيداً أن المخاطر تستهدفها معاً، فقد سبق أن تحالفت تركيا مع جميع دول المنطقة، ومع أميركا والعرب عموماً، ضد إيران، بحجة أنها تدعم الرئيس “العلوي” بشار الأسد، إلا أنَّها وصلت إلى طريق مسدود في سياساتها هذه، بعد أن تحولت جميع هذه الدول، وأهمها الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا، إلى أعداء لها في جميع الجبهات والساحات، هذا إذا تجاهلنا الخطر الأكبر بالنسبة إلى تركيا، ألا وهو تحالف الرئيس ترامب مع كرد سوريا، ودعمه المطلق لهم، وهم امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي وامتداده الإيراني “باجاك”.
وقد يكون الكرد أحد أسباب “التحالف” التركي – الإيراني الجديد، مع المعلومات التي تتوقع تحركات إسرائيلية – إماراتية سرية وعلنية لإحراج تركيا وإيران في العراق، ومن خلاله في شمال شرق سوريا، على الرغم من تناقض المواقف والحسابات السياسية والاستراتيجية والطائفية التركية – الإيرانية في هاتين المنطقتين أيضاً.
وقد تشجّع هذه التناقضات “الأعداء المشتركين” للبلدين للتمادي في مخططاتهم ضد إيران وتركيا معاً، وخصوصاً مع استمرار الحديث عن رغبة الرئيس إردوغان وإصراره على الاستمرار في سياساته الحالية في سوريا والعراق وليبيا والمنطقة عموماً، فهو يعتقد أنه الأقوى فيها، بسبب تناقضاتها الداخلية والخارجية التي حقَّقت لتركيا تفوقاً عسكرياً واستخباراتياً ونفسياً لن يتخلّى عنه، وفق العديد من التحليلات التي تشكّك في هذه النيات والحسابات.
ويقول زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، عنها بإصرار “إنها تخدم الأجندة الأميركية ضمن مشروعي الشرق الأوسط الكبير والربيع العربي”، اللذين أراد لهما إردوغان أن يخدما حساباته العقائدية والقومية عبر التدخّل في سوريا وليبيا ودول أخرى، “بناء على أوامر من الرئيس ترامب وقبله أوباما”، والقول أيضاً لأوغلو، الذي سبق أن أكد ضرورة التنسيق والتعاون الإقليمي بين تركيا وإيران وسوريا والعراق، معتبراً ذلك الوسيلة الوحيدة لإنهاء كلّ المشاكل والخلافات بينها، ومنع الدول الأجنبية من التدخّل في شؤونها الداخلية.
ويعرف الجميع أنَّ إردوغان لم ولن يرحّب بهذه الفكرة، مهما كانت علاقاته “جيدة” مع إيران، والسبب في ذلك حساباته في سوريا والعراق ولبنان، والتي تتناقض بشكل مباشر مع الحسابات الإيرانية ومحور المقاومة، إذ وصف فخر الدين التون، المتحدث باسم إردوغان، في إحدى تغريداته في “تويتر”، حزب الله بأنه “تنظيم إرهابي”، عندما تحدث عن لقاء الرئيس ماكرون بممثّلي الحزب، ثم عاد وصحَّح الصيغة، واكتفى بذكر اسم حزب الله، وهو ما انتبه إليه الإعلام التركي، الذي ذكَّر بالخلفيات العقائدية لقيادات العدالة والتنمية ضد إيران، التي لم تشهد علاقاتها مع تركيا أي توتر منذ اتفاق قصر شيرين للعام 1639؛ الاتفاق الذي رسم الحدود بين الدولتين.
وتهربت طهران “ذات البال الطويل” دائماً من الرد على أي موقف رسمي أو إعلامي تركي، على الرغم من حدة الهجمات التي تعرضت لها، إذ اتهمها الرئيس إردوغان في 19 نيسان/أبريل 2017 (بعد 3 أشهر من انطلاق مسار أستانا، وقبل شهرين من التوتر السعودي – الإماراتي مع قطر)، في حديثه إلى قناة الجزيرة، “بانتهاج سياسات توسعية فارسية”، وقال “إنها تتدخل في شؤون العديد من دول المنطقة، وبشكل خاص سوريا والعراق”، معتبراً “الحشد الشعبي العراقي المدعوم من قِبل إيران منظمة إرهابية”.
وقد تجاهلت طهران طيلة الفترة الماضية، ومنذ العام 2011، هذه التصريحات وأمثالها، وسعت إلى الحفاظ على علاقاتها مع أنقرة، باعتبار أن العدالة والتنمية حزب إسلامي، على الرغم من كل الخلافات بين الطرفين عقائدياً وسياسياً واستراتيجياً.
ويبقى الرهان دائماً على احتمالات التغيير في مواقف الرئيس إردوغان تجاه مجمل القضايا الإقليمية، وجميعها لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالعلاقات بين الجارتين تركيا وإيران، اللتين تستطيعان معاً أن تجدا حلاً لكلّ المشاكل التي تواجهها تركيا في سوريا والعراق وليبيا والمنطقة العربية وشرق الأبيض المتوسط وبحر إيجة، ولكل ذلك علاقة “بالتقارب أو التباعد” مع إيران.
ويعرف الجميع أن إيران، بالاتفاق مع تركيا في سوريا، تستطيع أولاً التوصل إلى صيغة عملية ناجحة لمعالجة كل مشاكلها الداخلية، كما تستطيع ثانياً أن تغير موازين القوى إقليمياً ودولياً. هذا بالطبع إن كان إردوغان يرغب في ذلك، وإلا فإن إطلاق الشعارات الحماسية لن يساعده في مساعيه لمواجهة الأعداء والمخاطر التي باتت قريبة من أنقرة أكثر من أي وقت مضى، بعد تحالف “إسرائيل” مع دول الخليج، واحتمالات حصول أبو ظبي على طائرات “أف 35″، واتفاقية التعاون العسكري بين “إسرائيل” واليونان وقبرص، والتحرك الفرنسي في لبنان والمنطقة، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الأزمة المالية التي تعاني منها تركيا، مع تراجع قيمة الليرة التركية مقابل الدولار بنسبة 22%، واليورو 38%، والإسترليني 37% خلال الأشهر السبعة الماضية، قد تضعها أمام تحديات أخطر.
ويبدو أن إردوغان، بأقواله وتصرفاته، غير مبالٍ بها، ما دام يرى نفسه زعيماً للأمة الإسلامية، حاله حال محمد الفاتح الذي فتح إسطنبول، أو السلطان سليم الثاني الذي دخل المنطقة العربية في العام 1516، ليصبح بعدها خليفة للمسلمين.
وأياً كانت حساباته، يبدو واضحاً أن إردوغان لن يستطيع تحقيق أهدافه إلا عبر التنسيق والتعاون، بل والتحالف مع إيران، باعتبار أنها وتركيا، إن اتفقتا، تستطيعان أن تواجها المخاطر التي تستهدفهما معاً وتستهدف الأمة الإسلامية وقضيتها المشتركة القدس الشريف.
كما أن مثل هذا الاتفاق والتحالف يستطيع أن يفتح صفحة استراتيجية في التاريخ الإسلامي عبر المصالحة السنية – الشيعية، ومعها العمل التركي – الإيراني لمعالجة مشاكل العرب، وهم الآن ضحية لمجموعة من التناحرات والخلافات والصراعات الداخلية والحسابات الإقليمية والدولية التي بدأت بما يسمى “الربيع العربي”، ويبدو أنها ستستمر لمساعدة “إسرائيل” في تحقيق الحلم اليهودي في إقامة الدولة العبرية من النيل إلى الفرات، وستمتد من مصر إلى تركيا، مروراً بفلسطين وسوريا ولبنان والأردن والعراق، وإلا لما قيل عن اتفاق الإمارات مع “إسرائيل” إنه اتفاق “إبراهيم” الذي ولد في أور جنوب العراق، وغادر منها إلى بلاد كنعان، مروراً بالأناضول، حاله حال يعقوب الذي غادر بابل، وهو الحساب الأهم في مجمل استراتيجيات الصهاينة، لأسباب توراتية وتاريخية أضافوا إليها الانتقام من إيران، مصدر الرعب الأكبر بالنسبة إلى “إسرائيل”، التي لجأت وستلجأ إلى كل حيلها التقليدية وغير التقليدية حتى تورّط تركيا في المنطقة، وتبقى بعيدة من إيران أو عدوة لها!
(سيرياهوم نيوز-الميادين12-9-2020)