محمد سيف الدين
الآن، تركيا التي صنعها إردوغان خلال العقدين الماضيين أضحت أمام اختباراتٍ متكررة وشديدة الخطورة ومتقاربة زمنياً إلى حدٍ لم يسمح له بالتقاط الأنفاس.
قبل الانتخابات الأخيرة، كان هناك صراعان دائران يخصّان تركيا؛ الأول داخل البلاد بين الرئيس رجب طيب إردوغان وتكتل المعارضة، والآخر صراع عليها من الخارج بين محورين عالميين يتجه تصادمهما الشرس نحو ذروته بسرعة.
حسم إردوغان الصّراع الداخلي بصعوبةٍ بالغة، وللمرة الأولى منذ وصوله إلى السلطة، لكن ذلك لم يكن من دون ارتدادات موثرة بوضوحٍ في هوامش المناورة التي كان يستفيد منها دائماً، وهو عندما دخل ذلك الاستحقاق كان يحمل معه عقدين من البناء الداخلي لقوّته ولأصول حزبه في الحياة السياسية التركية. لقد كان مسيطراً بصورةٍ متينة في الداخل. وفي الخارج، كان متكئاً على إرثٍ من الأدوار الإقليمية والدولية الفاعلة.
أدار الرئيس التركي توازناتٍ دقيقة تخص مواقف بلاده من قضايا الشرق الأوسط والعالم. استفاد إلى أقصى حدٍ ممكن من عضوية بلاده المؤسسة في حلف شمال الأطلسي، وأضاف إلى ذلك استغلالاً براغماتياً مفيداً لحساسية موقعها ووزنها التاريخي في محيطها، وثمّن هذه المعطيات عالياً في تعاطيه مع روسيا وإيران والعراق وسوريا، مع اختلاف الأساليب والسياسات والمقاربات.
لكن اشتعال الضفة الشمالية للبحر الأسود بالحرب الروسية-الأوكرانية، وتراكم المشكلات الاقتصادية الداخلية، أديا إلى خلط الأوراق الموجودة في يد إردوغان وتحرك أثمانها صعوداً وهبوطاً. غيرت الحرب الأوكرانية أولويات الجميع، من القوى الكبرى إلى تلك الإقليمية، وضيّقت بالتأثير التلقائي مساحات الأمان التي كان الرئيس التركي يتحرك فيها نحو هذا الجانب أو ذاك.
الآن، تركيا التي صنعها خلال العقدين الماضيين أضحت أمام اختباراتٍ متكررة وشديدة الخطورة ومتقاربة زمنياً إلى حدٍ لم يسمح له بالتقاط الأنفاس، وجعل من مناوراته المعروفة تبدو أقرب إلى التخبطات المتناقضة غير الهادفة، لكن الواقع يقول إنه كان رغم ذلك متماسكاً وقوياً في إدارته هذه التطورات الملحة.
مكتسبات تركيا الحديثة وملامح الخلافة التي أعاد إليها الاهتمام والموقع في قلب التحالف العابر للأطلسي، كلها كانت لا تزال مضمونة، لكن خطواته في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد بدء الحرب الأوكرانية، كانت تثير حفيظة الغرب بصورةٍ ملموسة. خاض هذا الأخير حرباً ضروساً لإسقاط إردوغان. تكتل الإعلام الغربي مع الدعم السياسي من الاتجاه نفسه للمعارضة التركية، وحاول قلب الصورة التركية عبر الانتخابات.
تريد الولايات المتحدة استعادة تركيا بأي ثمن. الحرب الأوكرانية، مجدداً، غيرت أولويات واشنطن وحاجاتها من الدول الإقليمية، تماماً كما غيرت تطورات النظام الدولي، وفي قلبه النظام الاقتصادي الدولي، أولويات ظروف الدول الأخرى المحيطة بتركيا، من الخليج إلى سوريا.
وإلى جانب الضغط الغربي الهائل في الداخل التركي، وبسببه جزئياً، كانت مؤشرات الاقتصاد التركي تتدهور بين يدي إردوغان، ثم جاء الزلزال وأضاف أعباء إلى الأعباء، لكنه رتب الأولويات بما يناسبه. أجّل الاستحقاقات الاقتصادية إلى ما بعد الانتخابات، وقدّم الأخيرة إلى أولى اهتماماته، وفاز في ذلك.
بعد الانتخابات مباشرةً، تدهورت الليرة، وانتشر الغبار الذي أخفاه تحت سجادة الانتخابات إلى هواء أروقة صنع القرار التركية. وبموازاة ذلك، دقت رسالة انتصار إردوغان جرس إنذارٍ في الغرب، فزاد الأخير الإلحاح بطلب تركيا مجدداً إلى البيت الغربي. يظهر ذلك في المواقف المتكررة من واشنطن وقيادة الحلف الأطلسي التي صارت تشبه التهديد في الآونة الأخيرة، ممهورةً بعباراتٍ من قبيل “حان الوقت” و”على تركيا أن تفعل…” وغيرها.
اختلال “التوازن المنضبط”
سياسة تأجيل المصائب استنفدت كل فرصها، وأضيفت إليها الضغوط الجديدة بعد الانتخابات، التي تركزت على عناوين محددة: تسهيل انضمام السويد وفنلندا إلى “الناتو”. دخلت فنلندا بعد تقديم تركيا تنازلاً أول، ثم بقيت مسألة السويد، إلى جانب القضايا المتعلقة بمشاركة تركيا في الجهود الحربية الغربية ضد روسيا، وأهمها العقوبات وتسليح أوكرانيا وسد المنافذ التي تتنفس منها موسكو لتخفّف أعباء الحصار الغربي.
لكنَّ إردوغان لا يقدم شيئاً بالمجّان. واصل حتى اللحظة الأخيرة، وسيواصل بعدها في زمن جديد على الأرجح، سياسة الاستفادة من كل الخيارات، وتجنّب الوصول إلى حائطٍ مسدود في علاقاته مع العالمين المتصارعين.
رفع سقف مطالبه من السويد، وضمناً من الغرب كله، فشنَ حملةً سياسية وإعلامية على ستوكهولم لمطالبتها بتنفيذ التزاماتها التي قطعتها لتركيا العام الماضي خلال قمة الناتو في مدريد، وتحديداً محاربة الإرهاب، ومعناه في أنقرة إجراءاتٌ سويديةٌ فاعلة وملموسة لمنع نشاط حزب العمال الكردستاني على أراضيها، إضافة إلى تسهيل ستوكهولم عودة الصادرات العسكرية التركية التي كانت قد أعلنت عليها عقوبات.
وفي سبيل تحقيق هذين العنوانين، انفعلت أنقرة بصورةٍ أكثر حماساً ضد إتاحة السلطات السويدية قيام شخصٍ عراقي سويدي بإحراق نسخة من المصحف أمام مسجد ستوكهولم الكبير قبل أسابيع.
وبموازاة ذلك، تابعت أنقرة تواصلها الوثيق مع روسيا، وأعادت طرح نفسها كوسيطٍ دائمٍ للسلام، وكراعٍ لتجديد صفقة تصدير الحبوب الأوكرانية من البحر الأسود، ثم واصلت توجيه الرسائل السلبية حيال انضمام السويد حتى فترة قصيرة سبقت قمة “الناتو” في فيلينوس الليتوانية.
لكن مؤشراتٍ أخرى كانت تظهر على وجه السياسة الخارجية التركية خلال الأشهر القليلة الماضية، وبصورةٍ أكثر وضوحاً خلال الأسابيع الأخيرة. تراجعت تركيا عن صفقات أسلحة روسية، وطلبت طائرات مقاتلة أميركية من طراز “أف 16”.
وقبل أيامٍ فقط، خرجت أنباء نفتها أنقرة عن أن الأخيرة ستشارك في تسليم كييف قنابل عنقودية. حدث ذلك في وقتٍ كانت تصدر تصريحاتٌ تركية غير مطمئنة لروسيا، آخرها أن لأوكرانيا الحق في الانضمام إلى “الناتو”، وأنها تتمسك بوحدة الأراضي الأوكرانية.
تسارع هذا السياق في الأيام الأخيرة قبل قمة فيلينوس. أرسل الغرب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى إسطنبول للقاء إردوغان، ثم استقبل بايدن رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون في البيت الأبيض، وأعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ تنظيمه لقاءً بين إردوغان وكريسترسون خلال قمة “الناتو” في ليتوانيا.
كان ذلك بمنزلة إنذارٍ أميركيٍ لإردوغان بأنَّ وقت المناورة انتهى، كما أشارت صحيفة “Les Echos” الفرنسية، التي أضافت عشية زيارة زيلينسكي إلى تركيا أن لدى الأخيرة فرصةً أخيرة لتوضيح موقفها في مواجهة الإجماع حول انضمام السويد إلى الناتو خلال لقاء إردوغان وكريسترسون، وأن هذا اللقاء يعبر عن نفاد صبر بايدن من مواقف تركيا.
وفق ذلك أيضاً، فإن الجولة الأخيرة من المفاوضات مع وزير الخارجية التركي ورئيس الاستخبارات لم تنجح، إذ دافع ستولتنبرغ عن الجهود التي بذلتها ستوكهولم خلال العام الماضي للاستجابة لمخاوف تركيا، معتبراً أنها قامت بواجباتها التي التزمت بها في قمة مدريد.
رغبة إردوغان في الحصول على تنازلاتٍ تواصلت، لكن اللغة لم تعد كما كانت، حتى إنَّ مضامين المطالب سوف تتغير بعد ساعاتٍ فقط. المساومة بين كييف وموسكو وواشنطن وبروكسل كانت أكثر تسارعاً بموازاة هذه التطورات.
عشية القمة، حصل تطوران مهمان جدياً؛ الأول كان من خلال تسليم أنقرة لزيلينسكي 5 قادة من كتيبة “آزوف” الأوكرانية التي قاتلت في معركة ماريوبول ضد روسيا في بداية الحرب، والذين أسرتهم القوات الروسية وسلمتهم لإردوغان ضمن اتفاقٍ بين الجانبين يقضي ببقاء هؤلاء في تركيا إلى حين نهاية النزاع، والتطور الثاني هو موافقة تركيا على تسهيل انضمام السويد إلى “الناتو” من خلال إحالة الملف إلى البرلمان التركي.
التطوّر الأول أثار غضب موسكو إلى حد إلغائها زيارة بوتين إلى تركيا في آب/أغسطس، التي أعلنها إردوغان قبل ساعاتٍ فقط، لكن ذلك لم يبدل موقف تركيا النهائي أو يعتبر انقلاباً على مسارها السابق مع موسكو، بل كان تنازلاً اضطرارياً في لحظة خطر كبرى أمام اشتداد الضغوط الغربية.
وبموازاة الاتصال الذي جرى بين بايدن وإردوغان في اليوم التالي لهذا القرار، كان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يجري اتصالاً بنظيره الروسي سيرغي لافروف، ويتحدثان فيه عن الملف الأوكراني واتفاقية تصدير الحبوب، إضافة إلى تسليم مقاتلي آزوف، في محاولةٍ لتوضيح الموقف التركي في هذا الشأن.
مساومة إضافية
في لحظة الضغط هذه، أجرى إردوغان مناورةً سياسية أخيرة. استبق إرسال ملف انضمام السويد للناتو إلى البرلمان التركي بلقاء رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل والاتفاق معه على التعاون بشأن استئناف طلب عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
المساومة الجديدة تقوم على رفع الرهان إلى درجة مقايضة الملفين، وهو ما أعلنه إردوغان بشكلٍ مباشر في مقابلة تلفزيونية قبيل توجهه إلى ليتوانيا: “أولاً، افتحوا الطريق أمام عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ثم نفتحه أمام السويد، تماماً كما فتحنا الطريق أمام فنلندا”.
لكن ذلك ليس بالسهولة التي يظهر عليها، على الرغم من مسارعة ستولتنبرغ إلى إعلان موافقة إردوغان على انضمام السويد التي أعلنت بدورها دعم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؛ فقبول تركيا في الاتحاد مسارٌ طويل ومقعد، ودونهُ عقبات كثيرة.
وإلى جانب المقايضة التركية المفترحة الآن، تطلب أنقرة من ستوكهولم محاربة الإسلاموفوبيا، وهو مسارٌ يحمل مضامين استنسابية يمكن تفسيرها بطرق عدة، الأمر الذي يضمن هامش مراوغة في تقويم مدى الالتزام به.
إذاً، ثمّن إردوغان أوراقه بقيمة عالية جداً، وأحال أمر السويد إلى البرلمان من جهة، وإلى ملفين معقدين، أولهما يمثل خطوة هائلة بالنسبة إلى الأوروبيين، تحمل مخاطر وهواجس كثيرة، وثانيهما حمّال أوجه وقابل للتفسيرات المتعددة.
يقود ذلك إلى الافتراض أن تركيا ستمرر الأيام الصعبة هذه بالتنازلات التي أعلنتها حتى اللحظة، ثم ستواصل العمل على ترميم الثقة مع الكرملين، ذلك أنها لا تحتمل خسارة أحد المحورين الآن.
ترغب تركيا في التمسك بأفضليات العلاقة مع روسيا التي وصلت إلى مستوى مساهمة الأخيرة بتحويل تركيا إلى دولة نووية، وتفضيلها بخطّ غاز السيل التركي، وبتسليفها دور صانع السلام في شأن الأزمة الأوكرانية وقضية تصدير الحبوب وغير ذلك الكثير، وترغب أيضاً في مواصلة دورها كعضوٍ رئيس في “الناتو” له كلمة حاسمة في التحالف وإمكانية توسعه.
لكنَّ الثمن الذي يطلبه إردوغان باهظ بالنسبة إلى الأوروبيين وحلفائهم؛ فألمانيا ومعها دول أوروبية عديدة تخشى القنبلة الديموغرافية التي ستدخلها تركيا إلى الاتحاد، وخصوصاً أنها ستقلب ديناميات النمو السكاني وتفصيلاته العرقية والدينية رأساً على عقب. بالنسبة إليهم، إنها قبل كل شيء قوةٌ إسلامية بنسبة نمو سكاني مرتفعة ستدخل إلى بيتهم وتغيره.
أما جيوسياسياً، فإن انضمام تركيا سيعني اختفاء المنطقة العازلة بين أوروبا والشرق الأوسط. بصورة أدق، لا يرى الاتحاد الأوروبي أن حدوده ستتوسع شرقاً مع إدخال تركيا، بل يراها من منظور أنَّ إيران وسوريا والعراق سوف تتحرك غرباً إلى حدوده مع كل ما يعنيه ذلك في الاتجاهين، ثم إن مسألةً أخرى تماماً ستخرج إلى الواجهة، هي وصول روسيا إلى المياه الدافئة عبر مضائق أوروبية.
المفارقة هنا في هذا الملف أن تركيا تقف في ضفة، والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي في الضفة الأخرى.
سيرياهوم نيوز 1_ الميادين