د.بسام الخالد
في الأيام الأخيرة من صيف عام 1977 بثّت إذاعة لندن خبراً يقول: « تم العثور على كنز ذهبي في سورية من أضخم الكنوز في العالم وهذا من شأنه أن يعزز الاقتصاد السوري لسنوات طويلة قادمة ويرفد الخزينة السورية باحتياطي هائل من الذهب » !والحقيقة أن ما تم اكتشافه هو كنز طيني وليس كنزاً ذهبياً.. هذا الكنز عبارة عن (16000) رُقيم ” لوح طيني” تحمل كتابة مسمارية وجدت في قاعة الأرشيف الملكي جففها الحريق الذي تعرضت له مملكة ايبلا وبقيت محفوظة وتم اكتشافها في قرية « مرديخ » قرب بلدة سراقب في محافظة ادلب التي عُرفت اليوم بمملكة « إيبلا ».كان البروفيسور (باولو ماتييه) رئيس معهد الدراسات الشرقية بجامعة روما يبحث عن حضارة ثالثة في التاريخ بعد حضارتي وادي النيل وما بين النهرين.. وقد قَدِمَ من إيطاليا على رأس بعثة أثرية إلى سورية منذ عام 1964 .. وبعد دراسات وتحريات دامت حتى عام 1968 اهتدى إلى موقع مملكة (إيبلا)، وفي عام 1977 تم الاكتشاف العظيم أو الكنز الكبير الذي تحدثت عنه جميع الأوساط التاريخية والأثرية والإعلامية (حضارة إيبلا السورية) ، حيث دلت الرُّقم المكتشفة أن إيبلا مملكة مزدهرة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وأن عراقة شعبها القديم بفكره وفنه وعلمه عراقة لا تضاهى.ولم يَرُقْ للصهاينة هذا الاكتشاف.. وبدأت دعايتهم المسمومة ببث حقدها وأضاليلها وسخرت العديد من وسائل الإعلام الغربية لهذا الغرض، فقد نشرت مجلتا « تايم » و« نيوزويك » وقتها مقالتين عن حق الشعب اليهودي في الأرض العربية استناداً إلى كذبة مفادها أن كاتب المقالتين (ديفيد فريدمان) هو عضو في بعثة التنقيب الأثرية في إيبلا وأنه اكتشف أسماء عبرية في الألواح المكتشفة.. ومعروف أن هدف الدعاية الصهيونية هو كسب الرأي العام في المجتمعات الغربية لتوجيه أنظارهم إلى القضية الصهيونية وحق اليهود في الأرض العربية، وهو ما تنكره جماعة ناطوري كارتا (حراس المدينة) المتدينة والممثلة لتعاليم الدين اليهودي الحقيقية..!
لكن هذه الأكاذيب لم تنطلِ على المؤرخين والمتخصصين في علم الآثار واللغات القديمة.. وجاء الرد المباشر على لسان البروفيسور” ماتييه ” نفسه حينها عندما أجريتُ مقابلة معه في موقع الاكتشاف حيث زودني بكم هائل من المعلومات حول أسبقية العرب في هذه المنطقة من كل الشعوب الأخرى بفترة زمنية تتجاوز الثلاثة قرون.. ونفى أن يكون المدعو( فريدمان) عضواً في البعثة المنقّبة في إيبلا، كما نفى معرفته الشخصية به أساساً، وأكد إن الرُقم المكتشفة تستلزم قراءاتها أكثر من عشرة أعوام فكيف استند المدعو ( فريدمان) إلى الرُقُم التي تم اكتشافها في أرشيف ايبلا الملكي وهي لم تُقرأ بعد ؟!وقتها، ونتيجةً لهذه الحملة الإعلامية الصهيونية المضلّلة، طالبت سورية بتشكيل لجنة دولية بإشراف الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو وعضوية علماء آثار وتاريخ عالميين لقراءة الألواح المكتشفة وإظهار الحقائق.. ومن القراءات الأولى للألواح تبين زيف الادعاءات الصهيونية وبطلانها، وقام البروفيسور ماتييه بإعداد كتاب ضخم عن إيبلا، هذه الحضارة العربية السورية ذات التنظيم السياسي والاقتصادي والعمراني والاجتماعي، والتي كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع جاراتها من الممالك الأخرى وتتصل اتصالاً وثيقاً بحضارتي وادي النيل ومابين النهرين.. ثم قام البروفيسور ماتييه بجولة على الجامعات الأمريكية لتوضيح هذه الحقائق ولاقى معارضة شديدة ومضايقات كثيرة من اللوبي الصهيوني هناك .. لكن الحقيقة ظهرت وأثبتت بطلان الافتراءات.بعد سنوات طويلة قابلت البروفيسور باولو ماتييه، قبل مغادرته إلى روما بعد انتهاء أحد مواسم التنقيب، وسألته عن الجديد في مكتشفات إيبلا.. ابتسم الرجل قائلاً: أمازلت تفكر بالرد على المزاعم الصهيونية.. وهل يحتاج نور الشمس إلى برهان ؟!
اكتب لديك: « إيبلا حضارة من أقدم الحضارات التي عرفها التاريخ، وفيها أعظم تراث حضاري يحق لسورية أن تفخر به ».ما دعاني لكتابة هذا الموضوع هو الافتراءات والأكاذيب التي تبثها الدعاية الصهيونية بين الحين والآخر حول وجود الشعب اليهودي في االكثير من المناطق العربية والتي يعيدون وجودهم فيها إلى /4000/ سنة بدءاً من الآن.. هذا التاريخ الذي زوّروه يؤكد أن العرب وُجدوا في هذه المنطقة قبل اليهود بأكثر من ثلاثة قرون استناداً إلى الوثائق التاريخية المكتشفة في إيبلا على الأقل.. وهذا يمكن إثباته بعملية حسابية بسيطة هي أن تاريخ الرُقمُ المكتشفة في إيبلا يعود إلى 2300 قبل الميلاد وعندما نضيف هذا الرقم إلى العام 2000م تكون النتيجة 4300 سنة، وإذا سلمنا جدلاً بمرور اليهود كـ (عابرين) في المنطقة العربية منذ 4000 سنة.. يكون لدينا سبق هو 300 سنة، مع الأخذ بالحسبان أن تدوين تاريخ مملكة إيبلا جاء في فترة متأخرة من ازدهارها، وهذا يدل على أن الفارق الحضاري بين العرب واليهود في هذه المنطقة أكثر من ثلاثة قرون بحسب الاكتشافات الأثرية في إيبلا التي وُثقت من لجان دولية مختصة !ولا أشك أن علماء الآثار والتاريخ اليهود يجهلون هذا الموضوع .. لكن أعود لأقول: تزوير التاريخ .. مهنة صهيونية بامتياز، ضللوا فيها الشعب اليهودي قبل الشعوب الأخرى!
(سيرياهوم نيوز-صفحة الكاتب 14-3-2022)