أعادت التسريبات الصحافية حول الاستعدادات الإسرائيلية لمهاجمة إيران، إلى الأذهان، واقعة مشابهة تعود إلى نيسان من عام 2023، حين نشر أحد الطيارين الأميركيين، ويُدعى جاك تيكسيرا، مقتطفات من تقارير استخبارية ووثائق سرية حسّاسة تتعلق بعدد من البلدان الحليفة لبلاده، وفي طليعتها كوريا الجنوبية وأوكرانيا، وما أعقب ذلك من حالة تضعضع في التحالفات الدولية لواشنطن.
ماذا في الوثائق؟
أصبحت الوثيقتان الأميركيتان، واللتان تحملان وسم «سري للغاية» لكونهما غير متاحتين إلّا للولايات المتحدة وعدد قليل من حلفائها، وتحديداً بريطانيا، وكندا، ونيوزيلندا، وأستراليا، والمؤرّختان في 15 و 16 تشرين الأول الجاري، قيد التداول على نطاق واسع عبر وسائل الإعلام الغربية، بخاصة الأميركية، كشبكة «سي إن إن»، بدءاً من يوم الجمعة، بعد أن سرّبتهما قناة «Middle East Spectator» في موقع «تلغرام»، والتي تعمل انطلاقاً من الأراضي الإيرانية. وفي حين تناولت إحدى الوثائق التي نسبتها القناة إلى وكالة «National Geospatial-Intelligence»، التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، والمعنية بتحليل الصور والمعلومات التي تجمعها الأقمار الصناعية التجسسية التابعة للولايات المتحدة، وأعاد موقع «أكسيوس» نشرها، استعدادات حكومة بنيامين نتنياهو لاستهداف المواقع الإيرانية، بما يشمل خططاً لنقل الذخائر المتقدّمة نحو عدد من القواعد العسكرية التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، تطرّقت أخرى، ومصدرها «وكالة الأمن القومي» الأميركية، إلى «تدريبات كبرى» كانت قد أجرتها القوات الجوية الإسرائيلية خلال الأسبوع الجاري في هذا الخصوص، وخصوصاً لناحية تذخير طائرات مقاتلة مُعدّة للقيام بمهام محدّدة داخل الجمهورية الإسلامية بصواريخ جو- أرض، في موازاة إعداد طائرات استطلاع وطائرات مُسيّرة هجومية لمهام معينة للغرض نفسه. وتظهر إحدى الوثيقتين المسرّبتين، والتي تحمل عنوان: «إسرائيل: القوات الجوية تواصل الاستعدادات لضربة على إيران»، وصفاً «تفصيلياً» لبعض أوجه التدريبات التي دأبت عليها تل أبيب منذ الـ15 من الشهر الجاري، استعداداً لما سمّته «ضربة انتقامية محتملة على إيران»، والتي شملت القيام بـ»مناورات عسكرية حاكت تنفيذ مهام على صعيد التزود بالوقود جواً، وكذلك البحث والإنقاذ». كما تكشف أن حجم القوة المشاركة في تلك المناورات «يعادل حجم القوة التي نفّذت من خلالها إسرائيل ضربتها على اليمن في 29 أيلول الماضي. أما الوثيقة الثانية فتورد تفاصيل حول بعض الخطوات التي باشرت بها إسرائيل بغية رفع الجاهزية لدى قواتها، وتحديداً الجوية، تحسباً لرد إيراني متوقع في حال نفّذت خطتها الهجومية ضد طهران، ومن جملتها «إطلاق صواريخ باليستية بعيدة المدى من الجو، وتنفيذ عمليات قصف باستخدام صواريخ جو – أرض، إضافة إلى تنفيذ مهام عبر طائرات دعم (لوجستي)، وعمليات تجسّس سرية فوق الأراضي الإيرانية باستخدام الطيران المُسيّر».
قلق وتحقيقات
مع الكشف عن الوثيقتين، عكست ردود الفعل في واشنطن، هواجس متفاوتة الحدة، بخاصة على مستوى العلاقات الأميركية – الإسرائيلية. ورغم رفض كل من «البنتاغون» و»وكالة الاستخبارات الوطنية» التعليق علناً حول الموضوع، واكتفائهما بعدم التشكيك في صحة ما نُشر، نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤولين في إدارة الرئيس جو بايدن تأكيدهم وجود «حالة من القلق البالغ إزاء الخرق الأمني الكبير المحتمل والمحرج»، كاشفين أن الإدارة باشرت التحقيق في «تسريب معلومات استخباراتية أميركية شديدة السرية حول خطط إسرائيل للانتقام من إيران». وأشارت الصحيفة إلى أنّ مسؤولي إدارة بايدن منقسمون في تقدير مدى خطورة ما انطوت عليه التسريبات، إذ اعتبر بعضهم أنّ «الضرر سيكون محدوداً ما لم تَظهر وثائق أخرى» حول قيام الولايات المتحدة بالتجسس على أحد أقرب حلفائها، بينما رأى آخرون أن «أي عملية كشف عن خطط الحرب الخاصة بأحد الحلفاء تشكل مشكلة خطيرة». وبحسب الصحيفة، فإنّ مسؤولين أميركيين «أكّدوا في الكواليس صحة الوثائق»، مرجّحين أن يكون أحد الموظفين الحكوميين ضمن المراتب الوظيفية الدنيا هو مصدر التسريب، بناءً على تجارب سابقة.
مع الكشف عن الوثيقتين، عكست ردود الفعل في واشنطن، هواجس متفاوتة الحدة، بخاصة على مستوى العلاقات الأميركية – الإسرائيلية
وفي السياق عينه، أفاد مسؤول أميركي، شبكة «سي إن إن»، بأن تسريب الوثيقتين «مقلق للغاية»، موضحاً أن جهود التحقيق التي تتولاها كل من وزارة الدفاع و»مكتب التحقيقات الفيدرالي» إلى جانب وكالات استخبارية أميركية أخرى، تتركّز حول «تفحّص هوية الجهات التي تملك حق الوصول إلى الوثيقتين» المسرّبتين، علماً أنه لم يتضّح ما إذا كان التسريب قد حصل عمداً، أو نتيجة لعملية اختراق سيبراني أو استخباري، في وقت تتهم فيه واشنطن، طهران، باختراق حملة المرشح الرئاسي الجمهوري، دونالد ترامب.
معضلة الثقة بين أميركا وإسرائيل
هذه «الفضيحة الاستخبارية»، والمتزامنة مع حديث حول تباينات أميركية – إسرائيلية في شأن الهجوم على إيران، وبنك الأهداف المنويّ ضربه، ترتب عليها، خلال الساعات الأخيرة، انعقاد جلسة سرية لمجلس النواب الأميركي للوقوف على هذه القضية، في وقت كشف فيه موقع «أكسيوس» أن دوافع التسريب قد تكون متصلة بـ»محاولة تعطيل العملية (الهجومية) الإسرائيلية»، مضيفاً أنّ ما جرى «ربما يحمل مؤشراً إلى وجود خرق أمني شديد الخطورة داخل مجتمع الاستخبارات الأميركي»، فضلاً عما يكشفه من «عملية مراقبة دقيقة وتفصيلية تقوم بها المخابرات الأميركية للاستعدادات الإسرائيلية الجارية للهجوم على إيران، وسائر العمليات الجارية في قواعد سلاح الجو الإسرائيلي، بما في ذلك المراقبة عن طريق الأقمار الصناعية التجسسية» التابعة لواشنطن. ونقل الموقع عن مسؤول إسرائيلي كبير قوله إنّ تل أبيب تأخذ قضية التسريبات على محمل الجد.
من جهتها، أفادت صحيفة «نيويورك تايمز» بأنّ «المعلومات الواردة في التقرير المسرّب ليس سوى نزر يسير من تلك التي تمكنت واشنطن من جمعها»، معتبرة أنّ ما تضمنته الوثيقتان «لم يكن تقييماً شاملاً لما تعرفه الولايات المتحدة عن النوايا الإسرائيلية»، بخاصة على صعيد الهجمات السيبرانية، أو العمليات التخريبية التي يمكن أن تشنها إسرائيل في الداخل الإيراني. وبينما استعبدت الصحيفة، نقلاً عن مسؤولين في واشنطن، أن يؤثر التسريب على الخطط العملياتية لإسرائيل، أشارت شبكة «سي إن إن» إلى أنّ التسريب «يأتي في لحظة حساسة للغاية على صعيد العلاقات الأميركية الإسرائيلية»، مؤكدة أنّ الأمر «سيغضب الإسرائيليين»، ولا سيما أن إحدى الوثائق تحمل دلالات على مسألة لطالما تكتّمت عنها تل أبيب، وهي امتلاكها لأسلحة نووية. ومن هذه الخلفية، قال نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط، مايك مولروي، إنّ «التنسيق المستقبلي بين الولايات المتحدة وإسرائيل قد يكون عرضة لمواجهة تحديات»، مبينّاً أنّ «الثقة عنصر أساسي في علاقاتهما الثنائية». وحذّر الضابط المتقاعد في «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركية من أنّه «وبالاستناد إلى الكيفية التي جرى بها تسريب هذه المعلومات (الاستخبارية) أخيراً، فقد تتآكل تلك الثقة» بينهما لاحقاً.
سيرياهوم نيوز١_سانا