د. بسام الخالد
لا أدري ما الذي دعاني لتذكّر “غيفارا” الآن بعد كل هذه السنوات التي مرّت على رحيله؟!
أمسكت قلماً وورقة وبدأت أرسم ملامح ثوراته، من خلال ما علق في ذاكرتي عن هذا المناضل الأممي الطبيب، الأخلاقي، والعنيد في آن.
قال لي أحد الأصدقاء: ما الفائدة من كتابة مقالٍ عن ” غيفارا ” في هذا الوقت بالذات؟
وببساطة أجبت: أردت الكتابة عن غيفارا لأعود إلى “أخلاق الثائر الحقيقي” .. غيفارا ناضل واستشهد للأسباب نفسها التي نناضل لأجلها وقدمنا الشهداء على مذبحها منذ القدم، وهي مقارعة الاستعمار الذي يجثم فوق صدورنا.. إنها “الحرية” التي جعلت منه رمزاً أممياً رائعاً يقتدي به المناضلون.
قال صديقي: لكن قضيته تختلف عن قضيتنا ومركز نشاطه الجغرافي يبعد عن منطقتنا آلاف الكيلومترات، والظروف التي تحكمت في نضاله مختلفة تماماً.
قلت: ألم يكن “غيفارا” رمزاً لثوار العالم ؟!
ألم ينطلق من الأرجنتين إلى كوبا ثم إلى افريقيا وبوليفيا ليناصر الثوار ضد مستعمريهم في محاولة شاملة لتوحيد أمريكا اللاتينية لتقف في وجه الولايات المتحدة الأمريكية التي تضطهد هذه الشعوب عبر عملائها الحاكمين لهذه البلاد؟
أولم تجند الولايات المتحدة جميع عملائها في دول أمريكا اللاتينية ليتعقبوا أخبار هذا الثائر بغية تصفيته.. ثم ألم يخلق هذا الثائر ورفاقه منهجاً جديداً في النضال ضد الإمبريالية التي تقف حجر عثرة في وجه تحرر الشعوب؟
أليست هذه قضيتنا التي نناضل من أجلها منذ أن ابتلينا بالاستعمار العثماني مروراً بالاستعمار الفرنسي وصولاً إلى صراعنا مع الصهاينة الذين زرعتهم بريطانيا ورعتهم الولايات المتحدة الأمريكية في أرضنا العربية ليسهل قضمنا جزءاً جزءاً وبالتالي ابتلاعنا وهضمنا؟
قال صديقي: ومع ذلك لا أرى مسوِّغا للكتابة عن “غيفارا” في هذه الظروف التي لم تترك فسحة لاستذكار المناضلين “الرموز” في ظل اختلال معاني النضال وانحراف “الثوار” عن أهداف الثورات وأخلاقياتها!
قلت: بل أرى المسوِّغ كلَّه لذلك.. لأن أي سلاح فتاك مهما بلغ من التطور لابد أن يقف وراءه إنسان مؤمن بقضيته، وبغير هذا الإيمان لا يمكن تحقيق النصر على العدو، والأمثلة كثيرة.. لماذا انتصر الفيتناميون على الأمريكيين، ولماذا حقق شعبنا الجلاء، ولماذا يرتعد الإسرائيليون من ضربات المقاومة الفلسطينية.. أليس لأن وراء كل ذلك إنساناً مؤمناً بقضيته التي يقاتل من أجلها ويقدم روحه رخيصة في سبيلها؟!
قال صديقي: هذا صحيح.. لكن لا أحد يقتنع بالبطولات الفردية في عصر الطيران والصواريخ وأسلحة الدمار الفتّاكة!
قلت: إنني لا أتحدث عن بطولة فردية وإنما أتناول “غيفارا” ظاهرةً ورمزاً للنضال.. أتحدث عن هذا الثائر الذي تخطى حدود وطنه ليساهم في تحقيق الحرية للآخرين فغدا رمزاً يقتدي به المناضلون، بأخلاقه وتفانيه وحرصه على عدم إراقة دم الشقيق، لقد وجّه غيفارا كفاحه للتحرر من الاستعمار الذي هو الداء الأساس الذي يجعل من الشعوب حيوانات غابة تنهش لحم بعضها باسم (الحرية) التي تتحول سريعاً إلى (انفلاش) بلا ضوابط وتبرير القتل والخطف والسرقة، هل أدركت أيها الصديق لماذا تذكرت هذا الثائر الآن؟.. ثم رويت له القصة التالية:
عندما كنت أدرس في معهد الصحافة الدولي في هنغاريا كان معي زميل دراسة اسمه “روفاس خوزا” وهو شاعر من جنوب افريقيا، ومن أعضاء (المؤتمر الأفريقي الأول)، الذي كان يتزعمه نيلسون مانديلا، كان هذا الشاعر منفياً ويناضل من خارج بلده التي كان يحكمها نظام الأبارتايد “الفصل العنصري”، وبالطبع كان روفاس خوزا زنجياً مثقفاً عاش بعض الوقت في أمريكا مع الزنوج وتعلم منهم مقاومتهم للتفرقة العنصرية ثم زار دولاً عديدة، ليس بقصد السياحة، وإنما بقصد المقاومة.. نعم المقاومة مع حركات التحرر التي تناضل لنيل استقلالها وتحقيق حريتها.. وعندما سألته إن كان يعرف شيئاً عن صراعنا مع العدو الصهيوني ابتسم قائلاً: قبل عام من حضوري للدراسة هنا كنت أعيش مع المقاومة الفلسطينية في لبنان، وشاركت في إحدى العمليات.. وقبل أن أستفيق من دهشتي بدأ “روفاس” يقرأ عن ظهر قلب قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش باللغة الإنكليزية.. وعندما سألته إن كان يعرف مطلع هذه القصيدة، قال بلغة عربية سليمة: “أحن إلى خبز أمي” !
وقلت لصديقي: هل تعلم لماذا قاتل روفاس مع المقاتلين الفلسطينيين؟.. قاتل لأنه يمتلك أخلاق الثوار.. قاتل لأن عدوه هو عدوهم، تماماً كما قاتل “تشي” عدوّنا .. ومن هذا المنطلق أكتب عن “غيفارا” لأستذكر ثائراً، في النصف الآخر من الكرة الأرضية، وقف يوماً ما في وجه عدوّنا وامتلك أخلاق الثوار.. ثائر لم تغرٍه المكاسب ولم ينتظر الوعود ولم تحركه الأهواء ولم يرتهن إلا للوطن!!
(خاص لموقع اخبار سورية الوطن-سيرياهوم نيوز)