سعيد محمد
لندن | انحسرت، بشكل ملحوظ، أعمال الشغب التي شهدتها فرنسا، بعد أسبوع من الاحتجاجات التي اندلعت على خلفية مقتل الشاب نائل مرزوق (17 عاماً) على يد الشرطة. وفيما تحدّث الرئيس إيمانويل ماكرون عن «تجاوز الأصعب»، فهو شرع في حراك محموم للتعامل مع حصاد «انتفاضة المهمّشين» التي كشفت صدوعاً عميقة في المجتمع الفرنسي طال تجاهلها. وبحلول يوم الثلاثاء، بدا الهدوء سيّد الموقف في الشوارع، على رغم استمرار الانتشار الأمني المكثّف، في موازاة انطلاق أعمال تنظيف الشوارع والمؤسّسات الرسمية والمتاجر التي تعرّضت للتخريب والحرق والنهب، بينما كان الرئيس الفرنسي يلتقي، في قصر الإليزيه، 300 عمدة بلدية ممَّن تضرَّرت بلدياتهم من جرّاء الاحتجاجات، لاستكشاف «الأسباب الأعمق» وراء الانتفاضة الأحدث. وتساءل ماكرون أمام ضيوفه: «هل هي عودة دائمة إلى الهدوء؟ سألتزم جانب الحذر في الإجابة عن هذا السؤال، لكن الذروة التي رأيناها في الأيام السابقة قد مرّت». على أن الاجتماع فشل، على ما يبدو، في التوصّل إلى إجماع حول أنجع الأساليب للتعامل مع جذور الغضب، بعدما انقسمت الآراء بين عمداء البلديات من اليمين واليسار. ولكن الرئيس وعد بالشروع في إعداد قانون جديد يسمح بتقديم مساعدة عاجلة للبلديات لإعادة ترميم المباني المتضرّرة والأماكن العامّة والبنية التحتية للنقل التي تعرّضت للتخريب، مؤكداً أن «البحث سيتواصل عن حلول حقيقية للأزمة خلال هذا الصيف». لكن خبراء شكّكوا في قدرة ماكرون على مسّ أصول التفاوت الطبقي والفصل الاجتماعي في البلاد، لأن ذلك يتطلّب بالضرورة إنفاق جبال من الأموال لا يتحمّلها الاقتصاد الفرنسي في وضعه الراهن على الأقل، أو تنفيذ تغييرات جذريّة في نظام الضرائب، وهو أمر ترفضه قطعيّاً الفئات المهيمنة على موارد البلاد. وكانت التفاوتات الطبقيّة قد ظهرت في أوضح صورها، خلال الأسبوع الماضي، عندما كانت باريس الفخمة تعيش أجواء أسبوع الموضة الباذخ، فيما تلتهب ضواحيها البائسة بالاحتجاج، وهو ما أثار جدلاً واسعاً.
وقبل اجتماعه إلى عمداء البلديات، زار ماكرون مقرّاً للشرطة في العاصمة باريس، ليشكر الضبّاط الذين قادوا عمليّات قمع الاحتجاجات، مع تردُّد أنباء عن شعور بالمرارة وخيبة الأمل يسود الأجهزة الأمنية في البلاد تجاه محاولات الرئيس إمساك العصى من المنتصف خلال الاشتباكات مع المحتجّين، ولا سيما وصْفه عمليّة إطلاق الشرطة النّار على الشاب الفرنسي من أصل جزائري، بأنه «لا يمكن تفسيرها، ولا يمكن تبريرها». ونقلت صحف باريس عن قادة نقابات رجال الشرطة، قولهم: «لقد فقدت أجهزة إنفاذ القانون الثقة تماماً بالرئيس»، واتّهامهم إيّاه بـ«تقويض نظام العدالة». وكانت تلك النقابات قد دفعت في اتّجاه التّشدد في التعاطي مع المحتجّين، وأصدرت بيانات بدت كأنّها مستلّة من أدبيات اليمين الفرنسي المتطرّف، دعت فيها إلى اتّخاذ إجراءات أقوى لمحاربة «جحافل المتوحّشين»، و«استئصال شأفة الآفات التي تقود أعمال الشغب»، معتبرة أن «قوات الشرطة اليوم في معركة، لأن ما يجري هو حرب على الدولة الفرنسية». والجدير ذكره، هنا، أن الشرطة الفرنسية تتمتّع بمكانة مهمّة ضمن أجهزة الدولة، وطالما صُنّف انتقادها من قِبَل السياسيين، من ضمن المحرّمات، فضلاً عن أنها شكّلت إحدى أدوات ماكرون في الحفاظ على الاستقرار خلال ولايتَيه الأولى والحالية، بعد تعدُّد الاضطرابات الاجتماعية، ولا سيما خلال حركة احتجاج “السترات الصفر”، وهو ما حدا بالحكومة إلى مدّ صلاحيات الشرطة ورفع موازنتها، وتحسين نوعية تسليحها ومعداتها، وتوسيع شبكة كاميرات المراقبة وأعمال الرصد لديها، وإطلاق يدها في ملاحقة مساجد المسلمين التي يعتقد بوجود (متطرفين) فيها.
ad
ومع ذلك، فإن البعض ينتقد قسوة تكتيكات الشرطة المستوحاة من التقاليد الاستعمارية، ويتّهم ثقافتها باليمينية والعنصريّة تجاه المواطنين المنحدرين من أصول مهاجرة. وتلقّت الشرطة وابلاً من الانتقادات الحادّة من قِبَل المواطنين والسياسيين اليساريين والمسؤولين الأمميين بعد اغتيال مرزوق؛ إذ قالت الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، رافينا شامداساني، في مؤتمر صحافي عقدته في جنيف يوم الجمعة الماضي: «هذه لحظة مهمّة لكي تعالج فرنسا بجدّية القضايا العميقة المتعلّقة بالعنصرية والتمييز في عمليات إنفاذ القانون»، فيما طالب تحالف «نوبيس» اليساري في البرلمان الفرنسي بالإلغاء الفوري لقانون 2017، الذي يمنح الشرطة صلاحيات أوسع لإطلاق النار على السائقين الذين لا يمتثلون للأوامر ويمكن أن يشكلوا خطراً على رجال المرور أو الآخرين، متّهماً الشرطة باستخدامه «رخصة للقتل السهل». ومع أن التأييد لرجال الشرطة يبدو حاسماً في أوساط الفرنسيين من ذوي البشرة البيضاء – أقلّه وفق أحدث استطلاعات الرأي -، فإن العديد من الفرنسيين الأفارقة والعرب، ولا سيما الذين يعيشون في ضواحي الصفيح على هوامش العاصمة والمدن الكبرى، يشتكون من تمييز عنصري فادح في معاملة الشرطة لهم.
ad
ظهرت التفاوتات الطبقيّة في أوضح صورها، عندما كانت باريس الفخمة تعيش أجواء أسبوع الموضة الباذخ، فيما تلتهب ضواحيها البائسة بالاحتجاج
وتشكّل هذه الانقسامات فرصةً لليمين الفرنسي المتطرّف لاستقطاب مزيد من التأييد؛ إذ أعلن حزب المعارضة الرئيسيّ، «التجمع الوطني»، في رسالة له بالبريد الإلكتروني مرفقةٍ بصورة لرجال الشرطة المتسلّحين بمعدات مكافحة الشغب وهم يسيرون وسط دخان متصاعد: «أعيدوا النظام إلى فرنسا!». ومع انتشار الاحتجاجات من ضواحي باريس إلى معظم المدن الفرنسية الكبرى، انتقد رئيس الحزب، جوردان بارديلا، «جحافل المتوحّشين» من المتظاهرين، مندّداً بالهجرة «تامّة الجنون» إلى فرنسا. وقال نائب عن الحزب في البرلمان: «الرعاع الحثالة الذين نراهم ينهبون المتاجر، ويشعلون النار في المكتبات وقاعات البلديّات، بينما هم غارقون في الضحك، لا يفعلون ذلك من أجل نائل، بل لمهاجمة كلّ ما تمثّله هذه الجمهورية الفرنسية». أمّا القائدة الروحيّة للحزب، مارين لوبن، التي كانت قد خسرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة بفارق ضئيل أمام ماكرون، بينما تطمح الآن إلى إعادة تعزيز حظوظها في انتخابات 2027، فأدلت بتصريحات بدت أكثر مسؤولية، واعتبرها فرنسيون في استطلاعات للرأي أفضل من تصريحات ماكرون وحكومته بنسبة 39% إلى 33%. ووعدت لوبن بإجراءات أكثر قسوة، من ضمنها سياسات لخفض سنّ مَن يمكن محاكمتهم بتهم جنائية إلى 16 عاماً بدلاً من 18 عاماً، وحرمان المدانين من الحصول على السكن العام أو مدفوعات الرّعاية الاجتماعية، ومكافحة ما سمّته «التراخي القضائي» عبر توفير المزيد من السجون ونظام إلزامي للأحكام على المدانين بأعمال التخريب.
ad
أمّا أكبر الخاسرين في هذا المناخ الشديد الاستقطاب، فقد كان اليسار الفرنسي الذي بدا عاجزاً تماماً عن تشكيل منصّة تلاقٍ بين المتضرّرين من سياسات العزل الاجتماعي – أي الفرنسيين ذوي الأصول المهاجرة -، والتفاوت الطبقي الصارخ في البلاد، أي مجمل الفرنسيين من الطبقات العاملة، بصرف النّظر عن أصولهم. وتراجعت في استطلاعات الرأي شعبيّة زعيم المعارضة اليسارية، جان لوك ميلانشون، وكذلك شعبية زعيمة «حزب الخضر»، مارين توندلير، بعدما اتّهما الشرطة بالعنصرية الممنهجة، وطالبا بتشديد الرقابة على استعمال قانون 2017 في شأن إطلاق النار.
من جهتهم، لم يفوّت عتاة اليمين الأوروبي الفرصة للاستثمار في الحدث الفرنسي المشتعل. إذ ألقى ماتيو سالفيني، الزعيم الإيطالي اليميني ووزير الداخلية السابق، باللّوم في أعمال الشغب في الجارة الشمالية، على «سنوات من التراخي تجاه التطرّف الإسلامي والمتطرّفين الإسلاميين الذين يتماهون مع الإجرام»، متسائلاً «بعد ما شاهدناه، يحقّ لنا أن نتساءل ما إذا كنّا نعيش في الغرب أم في الجحيم!».
سيرياهوم نيوز 1_ الاخبار اللبنانية