ياسمين الناطور
كان حبّ الملك رمسيس الثاني لزوجته الملكة نفرتاري خالداً بقدر الحجر. نقشته المعابد، وشهدت عليه جدران أبو سمبل، حيث شُيّد معبدان متجاوران في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، جنوب أسوان، أحدهما للملك، والآخر لزوجته، في سابقة تعكس مكانتها الاستثنائية، حتى قيل إنها “التي تشرق الشمس من أجلها”.
لكن معبدي أبو سمبل لم يكونا مجرّد تعبير عن حب ملكي نادر، بل رسالة دينية وسياسية بالغة الدقة، أراد بها رمسيس الثاني تخليد اسمه، وإبراز قوة وهيبة مصر على حدودها الجنوبية.
View this post on Instagram
A post shared by Annahar Al Arabi (@annaharar)
يُعدّ مجمع معابد أبو سمبل من أعظم روائع العمارة المصرية القديمة، إذ نُحت بالكامل في قلب الجبل، في موقع استراتيجي يطلّ على بلاد النوبة. وقد خُصّص المعبد الكبير لتكريم الآلهة رع-حور-آختي، وآمون، وبتاح، إلى جانب تأليه رمسيس نفسه، بينما كُرّس المعبد الصغير للإلهة حتحور والملكة نفرتاري، في تجسيد نادر للمساواة في الحجم بين تماثيل الملك والملكة على الواجهة، بما يعكس دور نفرتاري الديني والسياسي.
ومن أبرز ما يميز معبد أبو سمبل الكبير ظاهرة تعامد الشمس، التي تحدث مرتين سنوياً في 22 شباط/فبراير و22 تشرين الأول/أكتوبر، حين تخترق أشعة الشمس الممر الأمامي للمعبد لمسافة تقارب الـ 60 متراً، لتضيء تماثيل ثلاثة داخل قدس الأقداس: رع-حور-آختي، ورمسيس الثاني، وآمون، بينما يبقى تمثال الإله بتاح، إله العالم السفلي، غارقاً في الظلام. ويؤكّد الأستاذ الدكتور محمود حامد الحصري، أستاذ الآثار واللغة المصرية القديمة المشارك بجامعة الوادي الجديد، أن هذه الظاهرة لم تكن وليدة الصدفة، بل صُممت بعناية فائقة تعكس تقدماً علمياً مذهلاً في الفلك والهندسة المعمارية لدى المصريين القدماء.
ويشير الحصري إلى أن الروايات تعدّدت حول دلالة تعامد الشمس، إذ تربط إحدى الروايات الظاهرة ببداية الموسم الزراعي ودورة الفيضان والزراعة، في حين ذهبت روايات أخرى إلى ربطها بمناسبات ملكية، إلا أن الثابت علمياً هو ارتباطها بالعقيدة الشمسية والرمزية الدينية والسياسية للدولة في عصر رمسيس الثاني.
في ستينيات القرن العشرين، واجه معبد أبو سمبل خطر الغرق مع بناء السد العالي وتشكّل بحيرة ناصر، ما استدعى تدخلاً دولياً غير مسبوق. ففي عام 1960، وتحت إشراف منظمة اليونسكو، أُطلقت حملة عالمية لإنقاذ آثار النوبة، جرى خلالها تفكيك معبدي أبو سمبل إلى آلاف الكتل الحجرية وترقيمها بدقة، ثم إعادة بنائهما على هضبة صناعية ترتفع نحو 65 متراً عن الموقع الأصلي، وعلى مسافة تقارب الـ 200 متر إلى الخلف، مع الحفاظ على اتجاههما الفلكي لضمان استمرار ظاهرة تعامد الشمس، مع تغيّر يوم واحد فقط عن موعدها السابق.
أما اكتشاف المعبدين، فيعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، حين لفت المستشرق السويسري يوهان لودفيغ بورخاردت الأنظار إلى الموقع، قبل أن يتمكن المستكشف الإيطالي جيوفاني بيلزوني من دخول المعبد عام 1817. لاحقاً، ساهمت الكاتبة والرحالة البريطانية أميليا إدواردز في توثيق ظاهرة تعامد الشمس وربطها بالعقيدة الشمسية والملكية الإلهية.
ويختتم الحصري حديثه بالتأكيد أن أبو سمبل ليس مجرد موقع أثري، بل معجزة هندسية وفلكية ورمز للحب الملكي، لا يزال حتى اليوم شاهداً على عبقرية المصريين القدماء، ومقصداً سياحياً وثقافياً يُلهم العالم بأسره.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
