جو غانم
يتّضح جليّاً يوماً بعد يوم، أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تريد أيّ حلّ في سوريا، وهي تفعل كل ما في وسعها لإعاقة أيّ تسوية داخلية أو إقليمية بين دمشق وعواصم المنطقة.
رغم انتشار حالة من التفاؤل في أوساط الشارع السوريّ في الداخل المحاصَر، وسريان شعور عام بالأمل بتغيير قريب وانفراجات ملموسة تمسّ حياة المواطن السوريّ الصعبة، وذلك خلال وإثر حدوث نشاطات سياسيّة بارزة وحراك إقليميّ ودولي جديد من نوعه منذ سنوات، يتعلّق بشكل مباشر بالوضع السوريّ، والذي تمثّل في انفتاح عربيّ على الدولة السوريّة، أفضى إلى مشاركة الأخيرة في القمة العربية التي عُقدت في الرياض الشهر الماضي، وحضور الرئيس بشار الأسد شخصيّاً اجتماعاتها، ولقاءاته مع عدد من الرؤساء والحكّام العرب في جوّ ودّي وإيجابيّ، وزيارات لمسؤولين سوريين بارزين إلى عدد من عواصم المنطقة.
وظهرت تصريحات رسمية وتقارير تتحدّث عن تقدّم حقيقيّ على مسار التسوية بين أنقرة ودمشق تحت الرعاية الروسيّة – الإيرانية، ثم عن اجتماعات أميركيّة – سوريّة مباشَرَة، لأول مرة منذ سنوات، في سلطنة عُمان والمملكة الأردنية الهاشمية، وتقدّم المبادرة الأردنية حول سوريا، والتي دعمتها عدة دول عربية على رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر، وإعلان الأردن عن استعداده لنقل اجتماعات “أستانة” إلى عاصمته عمّان.
ترافق كل ذلك مع نشاط دبلوماسيّ عربي حثيث في العاصمة الأميركية واشنطن، قاده سفراء الدول العربية ذاتها، لمحاولة إحداث تغييرٍ في طريقة التعاطي الأميركية مع الملف السوريّ، يقوم على إقناع واشنطن بعدم جدوى السياسات السابقة مع الدولة السورية، وتدشين مرحلة واقعيّة ترتكز على سياسة “الخطوة مقابل خطوة” مع دمشق، وعلى رؤية عربية جديدة ترى تلك العواصم أنّها قد تُحقّق مصالح الجميع في الإقليم عموماً، وتُرسي بعض التوازن مع النفوذ الإيراني – الروسيّ في سوريا.
على الرغم من كلّ ذلك، فإنّ أيّاً من هذا لم ينعكس إيجاباً، حتى اللحظة، على أيّ جانب من جوانب الوضع في الداخل السوريّ، بل إنّ مسار الأمور، ميدانيّاً واقتصاديّاً ومعيشيّاً، يمضي على نحو معاكس تماماً للتعليقات التي عكستها تلك الصور الإيجابية التي أفرزتها النشاطات والحراكات السياسية خلال الأشهر الستّة الأخيرة، وتحديداً منذ زيارة وزير الخارجية الإماراتيّ، عبد الله بن زايد آل نهيان، إلى دمشق، والتي تلتها زيارة للرئيس الأسد إلى الإمارات. وثمّة ما يشير بوضوح إلى احتمال اتّجاه الأمور نحو تصعيدٍ أكبر خلال الفترة القادمة.
ولعلّ في مراقبة نشاطات الولايات المتحدة الأميركية، وتركيا، وأدواتهما في المناطق المحتلة من سوريا، والاستعدادات العسكرية السورية والحليفة على امتداد جبهات القتال في ميادين الشرق والشمال، ما يؤكّد هذا التصوّر.
يتّضح جليّاً يوماً بعد يوم، أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تريد أيّ حلّ في سوريا، وهي تفعل كل ما في وسعها لإعاقة أيّ تسوية داخلية أو إقليمية بين دمشق وعواصم المنطقة. فالوثائق الأميركية المسرّبة أخيراً، تشير بوضوح إلى أنّ العرب لم يفلحوا في ثني الإدارة الأميركية عن خططها العدوانية حيال دمشق، وأنّ واشنطن حرصت على عدم السماح لهم بالذهاب بعيداً في مسألة تطوير علاقاتهم معها نحو ما هو أبعد من الأحاديث والصور والكلام العام والاستهلاكيّ عن “وحدة الأراضي السورية” وضرورة “تخفيف معاناة الإخوة السوريين”. فالمهم هنا بالنسبة إلى واشنطن، هو عدم الانفتاح الاقتصادي على سوريا، وإبقاء الحصار الذي يخنق المواطن السوري والذي من المفترض، أميركيّاً، أنه أنجع الوسائل التي ستدفع بدمشق نحو تقديم التنازلات مقابل حياة السوريين وعدم موتهم جوعاً.
ميدانياً، عادت واشنطن مؤخّراً إلى نقطة النار الأولى، فإلى جانب استقدامها تعزيزات عسكرية جديدة، بينها صواريخ نوعيّة من طراز “هيمارس”، ومضادات جوية ومنظومات حرب إلكترونية، ومدرّعات وعربات تحمل أعداداً جديدة من الجنود والتجهيزات اللوجستية، وإعادتها خلق كيانات عسكرية محليّة واستحداثها تحت مسمّيات جديدة، تعمّدت قوات الاحتلال الأميركيّ مؤخّراً، وخلال قيام القوات السورية – الروسية المشتركة بتنفيذ مناورات عسكرية في ريف حلب الشرقيّ، إرسال ثلاث طائرات مسيّرة إلى سماء منطقة المناورات قرب مدينة “الباب”، الأمر الذي دفع القوات الجوية الروسية إلى التحرّك فوراً وطرد الطائرات الأميركية بعد إطلاق البالونات الحرارية والعيارات المضيئة في اتّجاهها.
ولا تكمن خطورة هذه الخطوة في أنها تُشكّل إعلاناً صريحاً عن الاستعداد الأميركيّ لتقويض اتفاقية “منع التصادم” المعمول بها منذ العام 2015 بين القوتين الجوّيتين الروسية والأميركية في السماء السورية، وحسب، بل باعتبارها رسالة أميركية واضحة للروس، مفادها أنّ الولايات المتحدة الأميركية مستعدة للاصطدام العسكريّ المباشر لوضع حدّ للخطط والترتيبات الروسية الجارية في الملف السوريّ ميدانيّاً وسياسيّاً، ولدفع السوريين وحلفائهم إلى التفكير طويلاً قبل المضيّ قدماً في مشروعهم الرامي إلى مقاومة الاحتلال الأميركي وطرده من الأرض السورية، ووقف خططهم الآخذة بالتصاعد في هذا الشأن.
لكنّ واشنطن لم تتوقّف عند مرحلة “الردع”، أو الدفاع عن وجودها الاحتلاليّ ومحاولة إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه، بل لديها خطط جديدة للتوسّع في الشرق والبادية، ومن تلك الخطط محاولة طرد القوات الشرعية السورية والقوات العسكرية الرديفة العاملة معها، من الريف الشماليّ الشرقيّ لمحافظة دير الزور، وربط قاعدة الاحتلال في “التنف” بالمناطق التي تسيطر عليها “قسد” في الشمال الشرقي للبلاد.
ولهذا الغرض، أمرت قوات الاحتلال قيادة “قسد” بالدفع بحشود عسكرية كبيرة من محافظة الحسكة في اتجاه دير الزور، وقد وصلت أرتال “قسد” بالفعل إلى محيط القاعدة العسكرية الأميركية في “حقل كونيكو للغاز”، وتمركزت هناك، بالإضافة إلى وصول أرتال أخرى إلى مناطق الخطّ الغربيّ ودوّار المدينة الصناعية ومناطق المعامل والمحلج ومطحنة دير الزور.
ووُضعت تلك الحشود تحت التصرّف المباشر لقيادة قوات الاحتلال الأميركيّ في المنطقة، بالتزامن مع وصول عشرات المركبات والآليات العسكرية الأميركية إلى الريف الشرقي للمحافظة، قادمة من منطقة منبج شماليّ الرقة. وقد اتّخذت القوات جميعها، وضعيات القتال بعد تهيئة الأرض وإزالة الألغام على طول خط المواجهة مع القوات السورية هناك، ما دفع بوزارة الدفاع السورية إلى تعزيز قواتها واستقدام مجموعات عسكرية جديدة من قوات النخبة، واتّخاذها وضعية القتال على خطوط التماس مع قوات التحالف، في الوقت الذي أعلن فيه محمد القاسم، قائد ما يسمّى بـ “جيش سوريا الحرّة” الذي شكّلته وترعاه قوات الاحتلال الأميركيّ في بادية التنف، عن سعيه لإقامة غرفة عمليات مشتركة مع “قسد” بتخطيط وأوامر أميركية، للهدف عينه، وهو احتلال المنطقة الواقعة بين التنف ودير الزور، وربطها بالحسكة والقامشلي والرقة وريفها، لتصبح تحت السيطرة الأميركية بالكامل.
تشير المعلومات المتعلّقة بهذا السياق، أنّ القيادات العسكرية في دمشق وموسكو وطهران، قد تجهّزت تماماً لاحتمال المواجهة في أيّ لحظة – وليست المناورات السورية – الروسية التي حدثت قبل أيام، سوى تدريب ميدانيّ متطوّر على المواجهة المحتملة – وأنّ تنفيذ هذا المخطط الأميركي، هو أمر لا يمكن السماح به تحت أيّ ظرف، وأنّ قرار تصعيد عمليات المقاومة الشعبية والنظامية لقوات الاحتلال، أمرٌ لا رجعة عنه، وهذا سيعني بالضرورة تصعيد العمليات ضد “قسد” ذاتها، التي فشلت في التنصّل، ولو قليلاً، من السطوة الأميركية ومن طغيان أحلام بعض قياداتها الانفصالية، على الواقع، خلال المفاوضات الأخيرة مع الشرعية في دمشق.
وهنا، ستقوم تركيا، بالتنسيق مع موسكو، بالدور الأكبر على هذا الصعيد، وهو ما بدأ بالفعل في الأيام الأخيرة، وقد تجلّى بقوّةٍ في استهداف طائرة مسيّرة تركية لسيّارة تقلّ قيادات بارزة في “قوات الحماية الذاتية” على طريق القامشلي – الحسكة، أسفر عن مقتل ثلاثة منهم وجرح الرابع.
في الشمال، ومنذ ختام محادثات “أستانة 20″، لم تتوقف عمليات القصف السورية والروسية المركّزة على مواقع لتنظيم “هيئة تحرير الشام” الإرهابيّ، على جميع الجبهات في ريف حلب وريفيّ إدلب واللاذقية، بينما تمادى التنظيم في اعتداءاته مؤخّراً، حيث استخدم الطائرات المسيّرة في اتّجاه عمق محافظتي حماة واللاذقية، ما أسفر عن سقوط شهداء وجرحى.
وفي حين لم تصدر حتى اللحظة، أيّ تعليمات تركية واضحة وشاملة للفصائل التابعة لأنقرة، حول مسار وخطوات “خارطة الطريق” الخاصة بتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، والتي أعلن عنها وزير الخارجية الروسي خلال مؤتمر “أستانة” الأخير، لكنّ الأوامر التركية بقرب تسليم طريق “أم 4” (أو جزء منه كمرحلة أولية على الأقل) قد أُبلِغت بالفعل لتلك الفصائل.
وفي هذا السياق، فإنّ اجتماعين قد حدثا في الأسبوع الأول من هذا الشهر بين قيادات أمنية وعسكرية تركية، وقيادات من تنظيم “الهيئة” الذي يتزعمه أبو محمد الجولاني، أصدرت فيهما أنقرة أوامرها القاضية بضرورة عدم تنفيذ أي هجمات في محيط طريق “أم 4” أو السماح لمحتجّين بالاقتراب منه. غير ذلك، لم تُتّخذ أي خطوات عملية كبيرة في ميدان تلك الخارطة.
وفي وقتٍ ما يزال الجولاني يحاول فرض نفسه كطرف أساسيّ وقوي على أنقرة والجميع، وذلك من خلال الهجمات والاعتداءات المتكررة على مواقع الجيش السوري والقرى الآمنة في العمق، فإنّ في الحشود العسكرية السورية التي تزايدت وانتشرت على جبهات الشمال بشكل واضح خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، هو إلغاء الجولاني وجماعته عند البدء العمليّ والفعليّ لتطبيق خارطة الطريق تلك، والمعطيات تفيد بأنّ أنقرة لن تمانع في إلغاء وتصفية كلّ فصيل يقف عثرة أمام تنفيذ مصالحها الكبرى مع روسيا وإيران وسوريا، وكل ما يقوم به الجولاني الآن، هو محاولات للتخفيف من درجة التخلّي التركي المُتوقعة في أيّ لحظة.
سيرياهوم نيوز 1_ الميادين