محمد نور الدين
لم يمضِ مسار المصالحات التركية، كما يشتهي الرئيس رجب طيب إردوغان، الذي اندفع طلباً لنجدة الخارج، لَمّا بدأت تتراءى له علائم الهزيمة في الداخل، مع انحدار شعبيته وحزبه إلى مستوى مقلق لفرص فوزه بفترة رئاسية جديدة. وفيما لا يزال تجاوُز «قطوع» الرئاسة يحتاج إلى خطوات ملموسة، في مقدّمها دفعة للاقتصاد الذي لم يُسعفه قرار «الاستدارة» في السياسة الخارجية، يبدو أن التوجّه للتصالح مع سوريا لن يؤتِي هو الآخر أُكله على نحو سهل وسريع. في ما يلي، الجزء الأول من «بانوراما» على حلقتَين، ترصد تطوّرات تلك المسارات، محاولةً استشراف مآلاتها
في وقت كانت مسارات المصالحة بين تركيا وكلٍّ من السعودية والإمارات وإسرائيل تسير بسلاسة ووضوح، بدا أن المسار نفسه ما بين أنقرة ودمشق أشبه ما يكون بلعبة القط والفأر، إذ اكتنفتْه حُجب سميكة من التساؤلات والتوقّعات، المكلّلة أيضاً بتفاؤل قد تجده في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية. على أن المصالحة، ومنذ اللحظة الأولى لتحريكها، بدا أنها تُواجه احتمال فشل غير يسير. قبل عام 2002، كانت سياسة تركيا الخارجية في المنطقة تتقاطع أحياناً وتتباين أحياناً أخرى مع السياسات الأميركية والأطلسية. لكن أنقرة ظلّت تتعاطى مع دول الجوار على أساس النديّة، ومن دولة إلى دولة. ومع قدوم «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة، متأبّطاً مشروعه الخاص، «العثمانية الجديدة»، كان هدف الهيمنة على المنطقة العربية حاضراً، بدءاً من سوريا، وصولاً إلى مصر، واستكمالاً إلى تونس والمغرب. وعلى هذا، اعتبر رئيس الحكومة التركية في حينه، رجب طيب إردوغان، الأحداث التي اندلعت في سوريا، في الـ15 من آذار 2011، «شأناً داخليّاً تركيّاً». ومن هنا تحديداً، بدأت المشكلة الكبرى مع تدخُّل تركيا في سوريا، ودعْمها المعارضة بالوسائل الممكنة كافّة، ومن ثمّ احتلال جيشها أجزاءً من الشمال السوري.
ad
انتقالاً إلى مسار المصالحات، أعلنت تركيا ومصر، في ربيع عام 2021، عن محادثات استكشافية في القاهرة بين وزيرَي خارجية البلدَين في محاولة لتحسين علاقاتهما، تلتْها العديد من الاجتماعات التي لم تُوصل إلى أيّ اتفاق. وفي مطلع تشرين الأوّل من العام الماضي، وقّع وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، ورئيس حكومة «الوحدة» الليبية، عبد الحميد الدبيبة، اتّفاقاً للتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الاقتصادية الليبية، أثار غضب القاهرة واستياءها. أمّا المصافحة بين الرئيسَين المصري عبد الفتاح السيسي، والتركي رجب طيب إردوغان، خلال افتتاح «مونديال الدوحة» في الـ20 من تشرين الثاني من العام الماضي، فبقيت في مكانها. وبعد مصر، كرّت سبحة المصالحات التركية، مع الإمارات، والسعودية فإسرائيل، وذلك بين عامَي 2021 و2022. من ثمّ زار إردوغان أبو ظبي والرياض، فيما زار الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، والرئيس الإماراتي محمد بن زايد، ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، أنقرة.
ad
ويُعدّ توقيت هذه المصالحات لافتاً ومهمّاً وباعثاً على محاولة استكشاف دلالاته. وكان الرئيس التركي اتّهم الإمارات بأنها موّلت، مع الولايات المتحدة، محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز 2016، فيما وصفت أنقرة قتْل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، عام 2018، بأشنع العبارات، وغالباً ما كانت تَدخل في شجارات سياسية مع إسرائيل. لكن ما جرى عام 2019، كان مفصليّاً لجهة تحديد خيارات مختلفة لاحقاً في السياسة الخارجية. ففي أيار من ذلك العام، تلقّى «حزب العدالة والتنمية» هزيمة موجعة في الانتخابات البلدية، بخسارته بلديتَي أنقرة وإسطنبول أمام مرشّحَيْ المعارضة، وهو ما شكّل ضربة لصورة إردوغان الذي ظلّ يردّد أن «مَن يسيطر على بلدية إسطنبول، يَحكم تركيا». وأكثر من ممّا تَقدّم، وبعدما كان الفارق 13 ألف صوت فقط لمصلحة مرشّح المعارضة، أكرم إمام أوغلو، في إسطنبول، في مواجهة بن علي يلديريم، أحد أقوى الوجوه في «العدالة والتنمية» والرئيس السابق للحكومة والحزب، ألغت «اللجنة العليا للانتخابات»، بضغط من الحكومة، انتخابات إسطنبول، وأعادتها بعد شهرين، فكانت النتيجة أن اتّسع الفارق بصورة مذهلة، إلى 800 ألف صوت لمصلحة إمام أوغلو، في ما مثّل إيذاناً بأن شيئاً ما بنيوياً يحدث ويصبّ في غير مصلحة إردوغان.
ad
كان يمكن إردوغان أن «يعضّ» على جرح الاقتصاد ويلغي فكرة المصالحات لو أن استطلاعات الرأي منحتْه أفضليّة شعبية
بعد تقييم ما جرى في انتخابات إسطنبول، قرّر «حزب العدالة والتنمية» إعادة توجيه بوصلة السياسة الخارجية، من جديد. وعزّز هذا التوجّهَ انفجارُ المسألة الاقتصادية، وتدهور سعر صرف الليرة من 3.77 ليرة أمام الدولار في عام 2016، إلى 14 ليرة في عام 2021، بينما يتجاوز الآن الـ19 ليرة. كان يمكن إردوغان أن «يعضّ» على جرح الاقتصاد، ويلغي فكرة المصالحة مع دول خارجية، لو أن استطلاعات الرأي منحتْه وحزبه أفضليّة شعبية. غير أنها جميعها، سواءً الموالية أو المعارضة، عكست تراجعاً تدريجيّاً في شعبيته، وشعبيّة شريكه، دولت باهتشلي، زعيم «حزب الحركة القومية»، فجاء القرار بـ«الاستدارة» في السياسة الخارجية، علّها تؤمّن للرئيس التركي الدعم الاقتصادي والمالي الذي من شأنه التخفيف من حدّة الأزمة الاقتصادية، وتالياً العودة من جديد إلى الصدارة في استطلاعات الرأي العام. المعادلة بدت واضحة: المصالحة والتنازل عن الاتهامات، في مقابل المال وإنقاذ الخزينة والشعبية. وفي حالات السعودية والإمارات وإسرائيل، ظهرت المقايضة سهلة التحقّق: ففي الأولى، تخلّى عن ادّعاءات السيادة في ملفّ خاشقجي، وسلّمه بالكامل إلى الرياض وطوى إداناته لمحمد بن سلمان؛ وفي الثانية، تخلّى عن اتّهام أبو ظبي بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية، وما عاد ينبس ببنت شفة عن الموضوع؛ وفي الثالثة، أي تل أبيب، سار التطبيع بسرعة الصاروخ، مع عودة تبادل السفراء، أملاً في أن «تَحكي» الأخيرة مع واشنطن لتخفّف ضغوطها على الاقتصاد التركي. ولم ينسَ إردوغان أن يمرّ في طريقه على عمليات المقاومة ضدّ العدو، ويصفها، في نيسان 2022، بـ«الشنيعة والإرهابية».
ad
على رغم كلّ ما تقدَّم، لا يبدو أن إردوغان «قبض» ثمن المصالحة مع إسرائيل، وهو ما تُظهره المسافة التي تأخذها هذه الأخيرة، وراعيتها الأميركية، من الزعيم «الإسلامي». أمّا الرياض وأبو ظبي فلا يُعرَف بدقّة ما الذي قدّمتاه لأنقرة من ودائع أو استثمارات. لكن الثابت أن كلّ آمال الدعم، إنْ كانت حصلت بالفعل، لم تنعكس تحسُّناً في صورة إردوغان، الذي ظلّت شعبيته تتراجع. أمّا المسار المصري، وعلى رغم أنه كان الأوّل في المصالحات الخارجية، لكنه لم يشهد، بعد مرور سنتَين كاملتَين، أيّ تقدُّم. ولعلّ السبب الأوّل لتعثُّره – على الأقلّ بالنسبة إلى تركيا – أنه ليس مساراً «ماليّاً»، ولا يوفّر لإردوغان «ريعاً مباشراً» يوظّفه في معاركه الداخلية، فضلاً عن أن الملفّ المصري مثقَل بالمشكلات المشتركة حول «الإخوان» وليبيا وغاز شرق المتوسط وتوازناته. كما أن مصر، بالنسبة إلى مشروع «العثمانية الجديدة»، تُعتبر «حجر الرحى». وعلى الرغم من أن هذا الحجر قد تَهشّم وتحوّل إلى غبار في بُعده المصري، إلّا أن إردوغان لا يزال يراهن على ركيزة مصر «الإخوانية». ومن هنا، لا يبدو الرئيس التركي مستعدّاً لـ«التهاون» في المسار المصري، ما لم تضطرّه ظروف قاهرة جدّاً لتغيير موقفه. والزيارة الأخيرة لوزير خارجية تركيا، قبل أيّام، إلى مصر، عكست تعثُّر المفاوضات من خلال تأجيل الحديث عن لقاء بين إردوغان والسيسي، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية التركية.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية