| خضر خروبي
لا يبدو الانقلاب الأخير في النيجر منفصلاً عن الصراع الدولي المتنامي بين الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة ثانية، فيما يَظهر كأن الواقع الفرنسي المأزوم داخلياً بات ينسحب على الساحة الخارجية، ولا سيما في القارة السمراء، حيث تملك باريس سجلاً استعمارياً، وتحتفظ بقوات عسكرية في عدد من بلدان غرب أفريقيا، أو ما يُعرف بـ«دول الساحل» كمالي وبوركينا فاسو. وقد شهدت هاتان الدولتان بالخصوص انقلابَين عسكريَّين على مدى ثلاثة أعوام، يُشاع عن وجود بصمات روسية فيهما، كجزء من توجّه استراتيجي أوسع من قِبَل الكرملين لاستعادة النفوذ الضائع في القارة الأفريقية، وتحديداً في غربها، بالاستفادة من مقارعة «حليفته الكبرى»، أي الصين، للنفوذ الاقتصادي الغربي هناك.
بوتين يجدّد التفويض الأفريقي لـ«فاغنر»
هذا الصراع الجيوسياسي الذي تتداخل فيه اعتبارات التاريخ وحسابات السياسة، يبدو أن من بين أبرز محرّكات تصاعده، رغبة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في تقويض نفوذ خصومه الغربيين، ومحاولة كسب أصدقاء جدد لبلاده على الساحة الدولية، إضافة إلى توفير مناخات استثمارية مُثلى للشركات الروسية في القارة الغنية بالثروات الطبيعية، وعلى رأسها الذهب والألماس واليورانيوم، فضلاً عن سعيه للاستفادة ممّا ترتّب على التباينات الأميركية – الفرنسية بشأن ملفّ «مكافحة الإرهاب» في منطقة «الساحل»، والتي أسفرت في فترة سابقة عن انسحاب كامل للقوات الفرنسية من مالي، ترافق مع حرمانها من الدعم الاستخباري واللوجستي الأميركي، في إطار ما سمّته واشنطن «إعادة انتشار» شملت النيجر، لأسباب تتعلّق باستراتيجية «التوجّه شرقاً».
وعلى طريق تحقيق الأهداف المشار إليها، تحتلّ مجموعة «فاغنر» العسكرية، والموجودة في أقطار أفريقية عدّة، من بينها مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق، مكانة بارزة كإحدى أبرز أدوات الكرملين في السياسة الخارجية، على رغم تمرّد زعيمها قبل أسابيع. وما استرعى الانتباه، في هذا السياق، ترحيب قائد «فاغنر»، يفغيني بريغوجين، بصورة علنية بانقلابَي بوركينا فاسو والنيجر، وإثناؤه على ما وصفه بـ«النضال ضدّ المستعمرين»، في إطار الترويج لجماعته كبديل أمني من الغرب، المنكفئ في وجه التنظيمات المتطرفة المتفرّعة من «القاعدة» و«داعش». والواقع أن بريغوجين يستغلّ ظاهرة تنامي العداء في أوساط الأفارقة للغرب، وتشكيكهم في جدوى التحالف العسكري معه عموماً، وفرنسا خصوصاً، في وقت لا يزال فيه الكثيرون منهم يكنّون مشاعر الامتنان لروسيا كطرف داعم لحركات التحرّر داخل بلدانهم خلال الحرب الباردة. وبحسب خبراء، فإن روسيا بدأت في التحرّك عملانياً، عبر «فاغنر»، لملء الفراغ الأمني داخل عدد من بلدان الساحل، منذ بزوغ نجم المجموعة عام 2018، وما تكشّف تباعاً عن دورها في أحداث القرم. ولعلّ ظهور بريغوجين في القمّة الروسية – الأفريقية في سان بطرسبورغ قبل أيام، يؤكد أن بوتين يضع مصالح بلاده في الغرب الأفريقي، في مرتبة أعلى من هواجسه حيال زعيم «فاغنر».
وخلافاً للحذر الروسي في التعامل مع انقلابات سابقة، كما في حالة مالي، والذي يلخّصه المحلّل في «المعهد الملكي المتحد للخدمات (البحثية)» البريطاني، صامويل راماني، بأن «روسيا حاولت خلال تلك الانقلابات تقديم نفسها كمستفيد بصورة عرضية وغير مقصودة من التغييرات الحاصلة»، فإن موقف موسكو هذه المرّة جاء «أكثر نشاطاً وصراحة في تأييد الانقلاب» الذي وقع في النيجر، ما قد يشي باحتمال أن تكون نسّقت مسبقاً بالفعل مع المجموعة الانقلابية، وخصوصاً أنه سبق لبريغوجين أن تحدّث أمام مقاتليه عن «نزهة» جديدة في أفريقيا. وبالنظر إلى أن النيجر تستضيف إلى الآن قوات فرنسية وأميركية في قواعد عسكرية على أراضيها، من ضمنها قاعدة للطائرات من دون طيّار، يوجز مدير برنامج منطقة الساحل في «مجموعة الأزمات الدولية»، جان هيرفي جيزيكيل، المشهد بقوله: «ما نراه هو أن منطقة الساحل أصبحت ساحة تنافس بين روسيا والغرب»، يمكن أن يتطوّر إلى «حرب بالوكالة»، ويتقدّم بالعالم خطوة إضافية نحو محظور «الحرب العالمية الثالثة». ووفق محلّلين، فإن بوتين يرمي إلى تعقيد جهود الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في ملفّ «مكافحة الإرهاب»، بما يفيده في إظهار مدى فشل الغرب في دعم حلفائه عسكرياً من جهة، ووضعه أمام واقع تدفّق المزيد من موجات اللاجئين في اتجاه أوروبا، كثمن سياسي وأخلاقي لهذا الفشل، من جهة ثانية.
مفتاح النجاح الروسي: تفنيد المزاعم الغربية
تجمّع متظاهرون أمام السفارة الفرنسية في مدينة نيامي، عاصمة النيجر، أواخر الشهر الفائت، ملوّحين بالأعلام الروسية، ومردّدين هتافات مندّدة بالسياسات الفرنسية. التظاهرة التي أعقبت الانقلاب الأخير، والمستوحاة من تظاهرات مشابهة في دول أفريقية أخرى، تنبئ، إلى جانب هذه الأخيرة، بتمكّن «القوة الناعمة» الروسية من تحقيق نجاحات في مجال اشتغالها، بالاستثمار في السخط المتراكم على السياسات الاستعمارية الغربية. وفي هذا الإطار، تتوالى التقارير عن نشاط غير مألوف للآلة الدعائية الروسية عبر الفضاء الإلكتروني في بلدان وسط أفريقيا وغربها، حيث يجري التركيز على غياب الشفافية المتعمّد من جانب باريس في شأن الاتفاقات العسكرية الموقّعة مع بلدان الغرب، وعلى ما تسمّى مظاهر «النفاق» الغربي، ومن بينها إعلان الحكومة الفرنسية تأييد التأجيل غير الدستوري للانتخابات في تشاد بعد انقلاب عسكري جرى مطلع عام 2021، قبل أن تدعو هي نفسها بعد أشهر قليلة من ذلك التاريخ إلى فرض عقوبات على مالي حين قرّر قادة الانقلاب فيها تأجيلاً مشابهاً.
قطاع كبير من الرأي العام الأفريقي، وبخاصة في أفريقيا الغربية، يقيّم الدور الصيني بصورة إيجابية
والواقع أن تلك الدعاية الروسية تخدمها معطيات عديدة، من بينها مثلاً المؤشرات إلى أن استقدام القوات الأجنبية، وبخاصة المحسوبة على بلدان «الناتو»، شكّل سبباً بحدّ ذاته لازدياد نشاطات الجماعات «الجهادية»، إذ وفقاً للإحصائيات الغربية، تَبيّن أن متوسّط العدد السنوي لهذه الهجمات قبل افتتاح قاعدة للقوات الألمانية عام 2018 في منطقة تاهوا، الواقعة غرب النيجر على الحدود مع مالي، بذريعة تدريب القوات الحكومية، كان معدوماً. إلّا أنه منذ ذلك العام، ومع تدشين القاعدة، قارب متوسّط العدد السنوي لعمليات الجماعات المسلّحة، 16. وفي عام 2022، سجّلت العمليات المشار إليها رقماً قياسياً بلغ 45. وحفّز هذا الواقع الدموي غضب المجتمعات المحلّية ضدّ القوات الأجنبية، ووصل الأمر إلى حدّ تحميل الأخيرة المسؤولية عن ضحايا هجمات المتشدّدين، والتواطؤ معهم، ولا سيما أنها تمتلك المعدات العسكرية المتطوّرة اللازمة – كالمروحيات والمركبات المدرّعة – لصدّهم.
«فيسبوك»: ميدان الحرب الأخرى
جانب من تلك «الحرب الإعلامية» بين الغرب وموسكو، ينشط عبر الميادين الافتراضية، إذ تكشف منظّمة «Code for Africa»، المعنيّة بتتبّع حملات التأثير عبر مواقع التواصل الاجتماعي في 21 دولة أفريقية، عن رصد نحو 175 حساباً على منصّة «فايسبوك»، خلال عام 2021 وحده، تستهدف أكثر من دولة أفريقية، بتمويل من «فاغنر»، وتتولّى نشر دعاية سياسية معادية لـ«الناتو» و«النهج الاستعماري» لبلدانه، ومؤيّدة في الوقت نفسه لموقف موسكو وخلفياته «الإنسانية»، ودورها التاريخي في دعم الحركات التحرّرية في القارة السمراء. وتتقاطع معطيات مصادر استخبارية أوروبية، مع تقييم عدد من الأجهزة الأمنية في غرب أفريقيا، حول اشتغال روسيا في دول الساحل، وبخاصة في بوركينا فاسو ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، على تشجيع تمتين الروابط العسكرية معها، والحضّ على المشاركة في الفعاليات والتظاهرات المؤيّدة لسياسات بوتين، وهو ما كان سبباً في دفع شركة «فايسبوك» إلى إغلاق ثلاثة من تلك الحسابات بدعوى ارتباطها بمنظمة «Internet Research Agency» للبحوث في سانت بطرسبرغ، التابعة لـ«فاغنر»، والواقعة أصلاً تحت عقوبات أميركية.
مع ذلك، شهدت حسابات «فيسبوكية»، تنشط في بلدان أفريقية، حركة تداول واسع بالمنشورات المتداولة عن «فاغنر» والتي بلغت أكثر من ألف منشور، فيما ارتفع عدد روّاد مواقع التواصل الذين يتشاركونها من 5500، إلى 350 ألفاً، وفقاً لبحث مشترك بين منظّمتَي «Code for Africa»، و«The Atlantic Council» للبحوث. ومن ضمن الحسابات المفضّلة لمروّجي الدعاية الروسية في أفريقيا، صفحة «فيسبوكية» ناطقة بالفرنسية تحمل اسم «L’Afrique Mon Beau Pays»، تمّ إنشاؤها عام 2017، ويبلغ عدد متابعيها حوالي 55 ألف شخص، وتدار من ِقبل جهات مجهولة في الكاميرون. وتعجّ الصفحة بالمنشورات المؤيّدة لبوتين والمعادية للغرب، إضافة إلى مقاطع لنشطاء في مالي وبوركينا فاسو تدعو إلى إقامة علاقات أوثق مع موسكو، علماً أن المعدّات العسكرية لعشرات الدول الأفريقية متوارثة من الحقبة السوفياتية، ما يفسّر احتفاظ القيادات والنخب العسكرية في تلك الدول بعلاقات عسكرية وثيقة مع روسيا.
ماذا عن الصين؟
بالمقارنة مع الحضور الروسي في أفريقيا، والذي غالباً ما يتّخذ طابع إرسال مستشارين عسكريين في مهمّات تدريبية، وإبرام صفقات أسلحة، فإن السياسة الصينية تجاه القارّة تنحو نحو وجهة استثمارية واضحة في مختلف المجالات، كان الرئيس الصيني، شي جين بينغ، قد أعلنها مبكراً قبل نحو عقد من الزمان، عندما تحدّث عن نيّة بلاده ضخّ قرابة 60 مليار دولار في اقتصادات البلدان الأفريقية، في إطار تشجيعها على التصنيع. وإلى جانب تقديم هبات عسكرية ومساعدات تنموية وإنسانية تقدَّر بنحو مليارَي دولار سنوياً، تُعدّ الصين إحدى أكبر الدول المانحة للقارة الأفريقية، حيث تبلغ قيمة الديون الصينية لبلدان القارة حوالي 600 مليار دولار. والظاهر أن جزءاً من أسباب هذا التوجّه يكمن في رغبة الأفارقة في الاستفادة من المزايا الاقتصادية للتعاون مع بكين، وربّما تسخيره في الوقت نفسه لتحسين شروط العلاقة مع واشنطن.
ومهما يكن، فإن قطاعاً كبيراً من الرأي العام الأفريقي، وبخاصة في أفريقيا الغربية، يقيّم الدور الصيني بصورة إيجابية، إذ بحسب استطلاع للرأي أجرته منظّمة «Afrobarometer» للإحصاءات، تَبيّن أن 63 في المئة من الأفارقة يرون أن تأثير الصين الاقتصادي والسياسي في بلادهم كان إيجابياً، فيما ترتفع هذه النسبة، في مالي على وجه التحديد، إلى 92 في المئة، وتقلّ عن النصف في بلدان المغرب العربي وشرق أفريقيا. وتُعزى هذه النظرة الإيجابية إلى واقع تجاهل العواصم الغربية، وبخاصة واشنطن، لهواجس التنمية الاقتصادية في الأقطار الأفريقية، وتركيزها على المقاربة الأمنية، وهذا ما يفسّر حقيقة أن 32 في المئة من المشاركين في الاستطلاع، الذي أجري في 36 دولة أفريقية، ضمن عيّنة شملت 54 ألف شخص، أعربوا عن تقديرهم بشكل خاص للاستثمارات الصينية في البنى التحتية، والدعم الاقتصادي المقدَّم من بكين لبلدانهم، فيما قدّر 23 في المئة ما توفّره بكين من منتجات رخيصة للمستهلكين الأفارقة.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار