تختلف ذهنيّة الدولة في تناولها لأعمالها في سياق الدور الاستراتيجي، عن ذهنيّة التاجر التي تجنح دوماً نحو الربح وتحقيق عائدات نقدية بأقصر السبل.. من هنا لم يعد من الحكمة امتداح سلوكيات الإدارات الحكومية بأنها تعمل بـ “عقلية التاجر”..كما هو الحال في الدول ذات الاقتصادات الريعية، وبعضها طرد أو عطّل مكونات الإنتاج والتنمية الحقيقية.
• د. ريا: إعادة تقييم آليات اتخاذ القرار الاقتصادي.. خصوصاً فيما يتعلق بتقييم جدوى المشاريع التنموية والاستثمارية
قد يبدو الأمر بالنسبة لنا في سوريا مختلفاً، بل يجب أن يكون مختلفاً بالفعل، فثمة استحقاق هنا اسمه “الجدوى التنموية” أي المنظور الأشمل والأكثر استدامة لمفهوم الجدوى.. وهذه الحيثية باتت اليوم بحاجة إلى استفاضة وشمولية بالتعاطي معها، واستقطاب الآراء والرؤى بشأنها، لأنها بالغة الأهمية في بناء سوريا الدولة الجديدة.
تصويب جديد
في سياق توثيق الرؤى التي يمكن وصفها بأنها “من خارج الصندوق، كان سؤال “الحرية” للدكتور المهندس والخبير الاقتصادي سلمان ريا، حول البعد التنموي المفترض في بيئة صنع القرار، سيما في زمن الالتقاط الخاطئ لمفهوم الاقتصاد الحر الذي أبداه بعض الخبراء والتنفيذيين على حد سواء.
وهنا يلفت د. ريا، إلى أنه و في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه سوريا بعد سنوات صعبة، تتعاظم الحاجة إلى إعادة تقييم آليات اتخاذ القرار الاقتصادي، خصوصاُ فيما يتعلق بتقييم جدوى المشاريع التنموية والاستثمارية.
فبرأيه.. النظر إلى جدوى المشاريع لا يجب أن يقتصر على الربحية المالية فقط، بل ينبغي أن يشمل الأثر الاجتماعي والاقتصادي والبيئي الأوسع، وهو ما يتطلب رؤية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار كلاً من الجدوى الاقتصادية والتنموية.
• الجدوى الاقتصادية تركز على الربحية المالية المباشرة للمشروع أما الجدوى التنموية فتتسع لتشمل الأثر الاجتماعي والاقتصادي والبيئي
اختلاف
يفرّق الخبير ريا، بين الجدوى الاقتصادية والجدوى التنموية بعد أن حدث خلط واضح بين المفهومين، ويوضح أن الجدوى الاقتصادية تركز على الربحية المالية المباشرة للمشروع، مثل تحقيق عائد على الاستثمار أو صافي قيمة حالية موجبة.
أما الجدوى التنموية فتتسع لتشمل الأثر الاجتماعي والاقتصادي والبيئي الذي يتركه المشروع على المجتمع بشكل أوسع، مثل خلق فرص عمل، تقليل الفقر، وتحسين الخدمات الأساسية.
• الاقتصاد اللا مركزي يمكن أن يكون أداة مهمة لتفعيل المشاريع التنموية عبر إشراك المجتمع المحلي
وليس بين هذين النوعين من الجدوى تناقض بالضرورة، بل يمكن أن يكون المشروع مجديًا اقتصاديًا وتنمويًا في آنٍ واحد، لكن في سوريا، غالبًا ما كانت تهيمن الحسابات الاقتصادية الضيقة التي تركز على الربح السريع، وهو ما يؤدي إلى تهميش المناطق الأكثر احتياجًا ويزيد من الفوارق الاجتماعية، لذلك، دمج الجدوى الاقتصادية مع التنموية ضروري لفهم أعمق لمآلات المشاريع.
خصوصيّة
تتميز خصوصيات الواقع السوري – وفقًا للخبير الدكتور ريا – ببيئة استثمارية معقدة بسبب الحرب والتدمير والركود الاقتصادي، حيث الأسواق ضعيفة والقدرة الشرائية متدنية، كما أن التفاوت الجغرافي والاجتماعي كبير جدًا.
في هذا السياق، يمسي تقييم المشاريع بناءً فقط على الربح يغذي اقتصاد الريع ويهمش المناطق المحرومة.. لذلك، من الضروري دمج معايير الأثر الاجتماعي والتنمية المستدامة ضمن تقييم الجدوى.
صلاحيات محليّة
يؤكد الدكتور ريا أن التجارب العالمية والمحلية تُظهر أن توسيع صلاحيات الجهات المحلية في اتخاذ قرارات اقتصادية تتناسب مع خصوصية كل منطقة، يعزز من فعالية تخصيص الموارد ويجعل التنمية أكثر انسجامًا مع احتياجات السكان.
هذا التوجه، الذي يُعرف بالاقتصاد اللا مركزي، يمكن أن يكون أداة مهمة لتفعيل المشاريع التنموية عبر إشراك المجتمع المحلي، ما يدعم الاستدامة ويخفف من التركز المفرط للموارد والقرارات في المركز.
أما التطبيق العملي لهذا النموذج المتكامل في سوريا فيتطلب من – وجهة نظر محدّثنا – تبني إطار تقييم مزدوج يوازن بين العائد المالي والأثر الاجتماعي، مع أوزان واضحة لكل معيار.
كما يرى أنه يجب تحفيز المشاريع التنموية من خلال حوافز ضريبية ومالية وتسهيلات في التراخيص، خاصة في المناطق الريفية والمحرومة.
• النجاح في إعادة إعمار سوريا لن يُقاس فقط بالأرقام المالية.. بل بمدى قدرة المشاريع على إعادة بناء المجتمع والاقتصاد على أسس متينة
كذلك، دور الشراكة بين القطاعين العام والخاص ضروري لدعم مشاريع ذات جدوى تنموية حتى ولو لم تكن مربحة على المدى القصير.
وفي نفس الوقت، يجزم الخبير الاقتصادي بأنه ينبغي أن يُمنح للمجتمعات المحلية دور أكبر في تحديد أولوياتها التنموية، وهذا لا يتطلب بالضرورة تحويل شامل للسلطة، بل خطوات مدروسة لتمكين الجهات المحلية من المشاركة الفعالة في صياغة وتنفيذ السياسات الاقتصادية، بما يتناسب مع مواردها وخصوصيات بيئاتها.
ويقدّم أمثلة عملية على المشاريع التي تحقق هذا التوازن، كمشاريع إعادة بناء المستشفيات والمدارس في المناطق المحرومة، أو مشاريع الطاقة المتجددة التي توفر فرص عمل وتحمي البيئة، أو تطوير البنية التحتية المائية والزراعية التي تعزز الأمن الغذائي. هذه المشاريع قد لا تدر أرباحًا سريعة لكنها تُحدث أثرًا مستدامًا ومباشرًا في حياة الناس.
مؤشرات
هنا نسأل ..كيف يتم تقييم الجدوى التنموية عمليًا، ليلفت د. ريا إلى أنه يتم استخدام مؤشرات مثل عدد فرص العمل الموفرة، نسبة استفادة الفئات المهمشة، التأثير البيئي، مدى استدامة المشروع بعد انتهاء فترة التمويل، ونسبة المشاركة المجتمعية في المشروع. هذه المؤشرات تُضاف إلى المعايير الاقتصادية التقليدية لتوفير تقييم شامل.
لكن بالتأكيد لا يمكن إغفال الدور المحوري للمانحين الدوليين والمنظمات في تمويل المشاريع التي تحقق أثرًا تنمويًا ولا تكون جذابة للاستثمار الخاص بسبب الربحية المنخفضة. كما يمكنهم توفير ضمانات تشجيع للاستثمار ودعم بناء القدرات المحلية لضمان استدامة المشاريع.
إعادة نظر
يجمل الدكتور سلمان ريا رؤيته في خلاصة حديثة لـ ” الحرية”..بأن النجاح في إعادة إعمار سوريا لن يُقاس فقط بالأرقام المالية، بل بمدى قدرة المشاريع على إعادة بناء المجتمع والاقتصاد على أسس متينة.. فالجدوى الاقتصادية لم تعد كافية دون أن ترتبط بالجدوى التنموية.. ويضيف: علينا أن نعيد التفكير في منظومتنا الاستثمارية لتصبح أكثر شمولية واستدامة، مع تعزيز آليات تمكين المجتمعات المحلية من المشاركة في صنع القرار الاقتصادي بشكل يتناسب مع قدراتهم واحتياجاتهم. التنمية الحقيقية تبدأ حينما نضع الإنسان في قلب كل قرار اقتصادي.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية