بينما ينغمس البعض في موالاة العواطف نحو الكلاب غير مبالين، تجري الأزمات الاقتصادية والأعباء الحياتية كالأعاصير حول رقاب الأفراد، وهنا يطرح سؤالاً مهماً: كيف للمعوزين أن يختاروا تربية حيوانات تتطلب إمكانيات مادية ونفسية ليست في متناول أيديهم أصلاً؟ فلقد كانت تربية كلاب الرفاهية في الأزمنة الغابرة حكراً على الأغنياء، لكن ما نشهده اليوم من تكاثر تلك الظاهرة بين الطبقات الكادحة وربما المعدمة، يفضح خللاً أساسياً في الأولويات الإنسانية، وتغافلاً فاضحاً عن الواقع المرير.
عبء ثقيل
الخبير الاجتماعي د. محمد عكار بيّن لـ”تشرين” أن تربية الكلاب ليست مجرد نزوة أو هواية عابرة، بل هي مسؤولية ثقيلة تنطوي على نفقات لم يعد البعض قادراً على تحملها إلا من رحم ربي، فعندما يكون همّ الأغلبية تأمين الطعام واحتياجات الأسر الأساسية، كيف يمكن لأحدهم أن يختار أن يتحمل عبء رعاية كائن آخر، يتطلب غذاء خاصاً وعناية طبية ومساحة من المكان والميزانية؟ مضيفاً: فبدلاً من أن تكون هذه التجربة مصدراً للفرح، تتحول غالباً إلى مزيد من الأعباء، مشيراً إلى أن المبالغ المدفوعة للزيارة البيطرية، التطعيمات، والوجبات المتخصصة، تتحول إلى “ثقب أسود” في الميزانية، ما يعقد حياة من يحاولون الابتعاد عن الفقر.
قصص الفوضى العاطفية
(سوسن.ش) اقتنت قطة بدافع الشفقة، وجدتها على حافة الطريق، تساءلت: هل يتحمل المجتمع عبء إنقاذ الجراء والقطط في الوقت الذي يضطر فيه العديد من الأفراد لترك أولادهم يعانون من نقص الغذاء والعناية بكائن آخر؟
بينما (م.ك)، التي تجتهد في استثمار جزء من دخلها لرعاية قطتها، تجسد نوعاً من حب الحيوانات الأليفة، بالرغم من ضيق الحال إلا أنها سعيدة بذلك.
أما (ج.ق)، فتؤكد من خلال تربيتها للكلب على أن الـ”بريستيج” والسعي وراء المظهر اللافت، أصبحا معياراً لقياس قيمة الفرد بين أصدقائه، حسب رأيها، ما يظهر انحداراً في المعايير الأخلاقية والاجتماعية.
نقد صارخ للاختيارات
الخبير الاجتماعي عكار أكد أن تربية الكلاب أصبحت مرضاً اجتماعياً يعبر عن تباين صارخ في الولاءات والاهتمامات، حيث يعاني البعض بصمت من تحديات الحياة، بينما تفسح لهم الساحة لتفاخر مصنوع بإهدار المال والجهد من دون سبب وجيه، لافتاً إلى إن ظاهرة تربية الكلاب تستدعي منا التأمل: هل نحن حقاً نعيش في زمن يتطلب من أحدنا أن يتحمل هذا الكم من المسؤوليات، أم إن ذلك نوع من الهروب من المشكلات الواقعية؟
تجاهل مسؤوليات أكبر
كما بيّن عكار أن التسيب في الأسلوب العام للحياة، عند البعض وما ينطوي عليه من تجاهل للمسؤوليات الأكبر تجاه الأسرة والمجتمع، والفقر المدقع والبطالة المستشرية، لا تعني أن من يملك القدرة المالية على تبني كلب هو بالضرورة شخص مسؤول، بل قد يكون هذا التصرف مؤشراً إلى هوان الحضور في المجتمعات التي تحتاج إلى مبادرات جادة تجاه تحسين نوعية الحياة، بدلاً من الاستجابة لنداءات التفاخر الفارغة في زمن الأزمات.
لا يعني أن من يملك القدرة المالية على تبني كلب هو بالضرورة شخص مسؤول بل قد يكون هذا التصرف مؤشراً إلى هوان الحضور في المجتمعات
فخ الثقافة الاستهلاكية
وأوضح عكار أنه بات من الضروري أيضاً التطرق إلى تأثيرات الثقافة الاستهلاكية، التي أضحت جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الحديث، قائلاً: يبدو أن مشاعر الرفاهية والسعادة قد استبدلت بالتفاخر بمظهر الحيوان الأليف، كأن وجود الكلاب في المنازل يعكس نوعاً من التقدم الشخصي وفق منظور بعض الأفراد، موضحاً أن هذه العقلية تسهم في إعادة تشكيل القيم الإنسانية للدلالة على غياب التوجيه السليم لاحتياجات الفرد الاجتماعية والعائلية، وتأتي تيمناً بأفكار الغرب وما نقلته لنا وسائل الإعلام من أفكار شبه مغلوطة.
التزام
وهنا يؤكد الطبيب البيطري وسام المحمد، أن تربية الكلاب تتطلب التزاماً مالياً كبيراً، لذا فإنه من المهم فهم التكاليف المرتبطة بصحة ورعاية الحيوانات الأليفة، وما تحتاجه من مساحة للحركة وإعادة هيكلة للنفقات، حيث تبلغ نفقات المعاينة والعلاج، من خلال الزيارات الدورية للعيادات البيطرية من 150 – 300 ليرة سورية سنوياً، وهذا يشمل الفحوصات الروتينية التي قد تكون كل 6 أشهر، بينما تتراوح تكاليف التطعيمات بين 25-50 ألف ليرة لكل تطعيم، حسب النوع والجرعة المطلوبة، لافتاً إلى أن التطعيمات الأساسية ضرورية لضمان صحة الكلب، لمنع انتشار الأمراض التي تؤثر في الإنسان إن أهملت، أما في حال حدوث مرض، فقد تتراوح تكاليف العلاج بين 50 –200 ألف ليرة سورية، أو أكثر حسب الحالة والتدخلات المطلوبة.
تبلغ نفقات المعاينة والعلاج من خلال الزيارات الدورية للعيادات البيطرية من 150 – 300 ليرة سورية سنوياً
بينما أشار حسن شقرو، بائع بأحد المحال التجارية المتخصصة بمستلزمات وأغذية الحيوانات، إلى أن سعر الطعام الجاف المخصص يتراوح بين 20 – 100 ألف ليرة شهرياً حسب نوعية وكفاءة الغذاء، كما أكد أن الأغذية المعالجة أو ذات الجودة العالية ضرورية لضمان صحة الكلب، أما المعلبات والوجبات الخاصة فقد تكون أسعارها مرتفعة أكثر، ما يزيد الأعباء المالية.
التأثيرات في الأسر
تواجه الأسر ذات الدخل المحدود تحديات كبيرة في إدارة هذه النفقات الكبيرة، وفق رأي عكار – ما قد يجعل من الصعب ضمان الرعاية الصحية اللازمة للكلاب، منوهاً إلى أن الكثير من الأسر تشعر بضغط كبير بين توفير الاحتياجات الأساسية والاستجابة لآراء أفراد الأسرة بشأن السعادة ومتطلبات الحيوان الأليف.
تربية الكلاب في زمن الأزمات تعكس انفصاماً مدهشاً عن الواقع الذي يعيشه الكثيرون والذي نراه في كل حي تقريباً
وختم عكار حديثه: إن تربية الكلاب في زمن الأزمات تعكس انفصاماً مدهشاً عن الواقع الذي يعيشه الكثيرون والذي نراه في كل حي تقريباً، لذا ينبغي علينا التركيز على تأمين أساسيات الحياة وعلى أولوياتنا الحقيقية، بدلاً من الانسياق وراء ثقافة الجعجعة والتفاخر الفارغ على حساب قيمنا الإنسانية، مضيفاً: دعونا نُعد التفكير حتى نستعيد إنسانيتنا في عالم يزداد تعقيداً وفوضى، مردفاً: إن الوقت قد حان لنبني مجتمعات تهتم بـ”إنسانية” الإنسان قبل أي مظهر من مظاهر البذخ.
سيرياهوم نيوز 2_تشرين