عبد المنعم علي عيسى
قد يكون ما شهدته منطقة جغرافية محدودة لا يزيد عديد سكانها سوى قليل عن مليونين من البشر، على مدى خمس وسبعين يوماً هو الأشد فتكا مما شهدته أي نظائر منذ أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها صيف العام 1945، بل ربما كان القتل والتدمير الجاريان على تلك المنطقة يفوقان بكثير ما جرى في العديد من محطات تلك الحرب التي استخدمت البشرية فيها أعتى منتجات التدمير والقتل بما فيها سلاح الفتك الأمضى الذي أدى إلى محو «هيروشيما» و«ناغازاكي» ببضع دقائق، فالفعل اليوم في غزة يبدو ماضياً نحو المآلات التي صارت إليها المدينتان آنفتا الذكر، لكن بشكل تدريجي، أي عبر استخدام القدرة التدميرية ذاتها مع الحرص على تجزئة الفعل، ولربما يأتي هذا الأخير لتجنب كسر التوافق الشفوي الذي «تعاهدت» القوى العالمية الخارجة من الحرب عليه، والقاضي بعدم تكرار التجربة، لكن التوافق كما يبدو هو فقط على عدم تكرارها دفعة واحدة من دون أن يعني ذلك عدم تكرارها على دفعات.
لا يمكن لمصطلحات راجت في أعقاب عملية «طوفان الأقصى» من نوع استعادة «قوة الردع» الإسرائيلية التي دعمها الغرب بقوة لا متناهية، وكذا من نوع «العقاب الجماعي» الذي دعمه هذا الأخير بشكل مبطن، أن تبرر كل هذه الوحشية التي لا نظير لها، ومن المؤكد أن الطبعات التي راحت تجترحها آلة الحرب العسكرية الغربية، لها أسبابها الأبعد من المرامي التي هدفت إليها من خلال تسويق تلك المصطلحات، فالحرب وفق النهج الذي سارت عليه بعد «هدنة» الأيام السبعة، التي بقيت حركة حماس فيها ثابتة عند مواقفها التي أعلنتها فجر 7 تشرين الأول الماضي والتي تقول بـ«الكل مقابل الكل»، بمعنى إطلاق سراح كل الأسرى من الطرفين، يشير إلى أن ثمة قرار اتخذه «كابينت الحرب» الإسرائيلي وهو «تجزئة» قنبلة هيروشيما أو استخدامها على مراحل، كفعل لابديل عنه، لكسر هذا التلاحم الأسطوري ما بين حماس وحاضنتها الاجتماعية، وسبيلاً لتحطيم إرادة المقاومة لدى الطرفين، وما يؤكد على ذلك بشكل قاطع هو أن العملية العسكرية لم تفرق بين مدني وعسكري، بل ولم تستثن البنى التحتية التي تمثل «لواصق» لقيام واستمرار التجمعات البشرية.
مع الفشل الذريع في تحقيق المرجو من تلك العمليات راحت الآلة العسكرية الإسرائيلية تجترح الروايات حول استخدام حماس للمستشفيات، وكذا المدارس ومراكز الإيواء، كمراكز قيادة لها، والفعل الذي لم تستطع الآلة الإعلامية إثباته ولو عن طريق «الفبركة» أدى إلى مزيد من الاحتقان داخل الآلتين سابقتي الذكر فكان القرار بتطبيق أقصى الضغوط على «الحاضنة الشعبية» كخيار بات أساسياً لتحقيق مكاسب، ولو جزئية، يمكن لها أن تخفف من تداعيات الفشل العسكري التي من المقدر لها أن تتخذ منحنى تصاعدياً داخل بنيان «الكيان» في المراحل القادمة، لكن الأهم منها سوف يكون في أعقاب الإعلان عن انتهاء العمليات العسكرية أياً تكن النتائج المستحصلة عليها من تلك العمليات، والراجح هنا هو أن تلك الضغوط سوف تزداد حدتها تباعاً بدرجة أكبر مما شهدته في المرحلة السابقة قياساً إلى معطيات عديدة أبرزها انتكاسة آلة الحرب في الميدان مما راحت تبرزه الفوارق بين تغطية الإعلام الإسرائيلي للعملية العسكرية وبين ما تعرضه قناة «الإعلام العسكري» التابعة لحركة حماس، ومن تلك المعطيات، عدم تبلور موقف دولي صارم يحول ما بين تلك الآلة وبين مضيها في السياقات التي رسمتها لنفسها منذ أن تكشف عمق «الجرح» الذي أحدثه «خنجر» الطوفان الذي ما انفك ينغمس في نسيج بدا أن باطنه يخفي حقائق ومعطيات لم تكن ظاهرة في السابق للعلن، وعليه فإن الرهان الأكبر سيظل منصباً على محاولة فصل المقاومة الفلسطينية عن حاضنتها الشعبية ولو أدى الفعل إلى تكرار «هيروشيما» في غزة.
الآلام كبيرة والمؤكد هو أن حجمها يتناسب مع حجم مخاض كبير هدفت إليه عملية «طوفان الأقصى» من دون شك، بل بات من الثابت أن «القيمين» على هذه الأخيرة كانوا قد وضعوا في حساباتهم إمكان بلوغ تلك الآلام الحدود التي وصلت إليها، ولربما أكثر، لكن متى كان الخنوع، أو ما يرادفه من مصطلحات من نوع «تحصيل الحقوق بالتفاوض»، هو السبيل لتحقيق الذات وإبراز الهوية الكفيلين، فقط، بقيام الدولة الفلسطينية التي من دونها سيكون من المستحيل للمنطقة أن تعرف الاستقرار أو تنعم بالأمن، مع كيان وجد أصلاً لتذويب تلك الذات وإحراق تلك الهوية ضماناً للتمدد في نسيج منطقة بدا أن منظريه مؤمنون بأنه يعاني تمزقاً من النوع الكافي لنجاح الفعل، لكن المؤكد هو أن الحسابات قد شابها العطب بفعل تجاهل معطيات تبدو وكأنها صاحبة الكلمة العليا في صراع بات من المؤكد أنه وجودي بدرجة أكبر مما كان مؤكداً، سابقاً، فيها.
كاتب سوري
سيرياهوم نيوز1-الوطن