وفي هذا الإطار، يأتي ملف تطهير الإدارة كواحد من الملفات الحسّاسة التي تدخل في سياق تصفية “تركة النهضة” الثقيلة، خصوصاً أن هذا المطلب يُعدّ “استحقاقاً وطنياً” في نظر شقّ واسع من التونسيين.
تحت أنظار البرلمان
الجمعة الماضي، عاد ملف تطهير الإدارة التونسية إلى الواجهة، بعدما عقدت لجنة تنظيم الإدارة ومكافحة الفساد في البرلمان جلسة استماع إلى ممثلين عن رئاسة الحكومة خُصّصت لمتابعة ملف التدقيق الشامل في عمليات تعيين وتوظيف إسلاميين وموالين لهم في مؤسسات الدولة بعد 2011، بطرق غير قانونية.
وناقشت اللجنة، بحسب ما أكده مقررها النائب بوبكر يحيى لـ”النهار”، ما تم إنجازه في سياق عملية التدقيق التي صدر بشأنها قانون منذ عام 2023.
وكشف ممثلو الحكومة، وفق المتحدث، عن تطور عملية التدقيق في جميع الانتدابات منذ عام 2011، والصعوبات التي اعترضت أعمال لجان التدقيق، التي يزيد عددها عن 26 لجنة وضمت أكثر من 436 مراقباً وخبيراً من مختلف الأجهزة الرقابية.
ولفت إلى أن ممثلي الحكومة أكدوا الانتهاء من التقرير الخاص بعملية التدقيق، من دون تقديم أرقام تفصيلية، لكنهم شددوا على أنها “كبيرة”.
نظرية التمكين
تُتَّهم حركة “النهضة”، في إطار ما يُعرف بـ”نظرية التمكين”، وهي واحدة من أدبيات “الإخوان المسلمين”، بتعيين أنصارها بعد تسلمها الحكم في تونس عام 2011 في وظائف حكومية، دون أن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة، أو باعتماد شهادات مزورة.
وتسبب ذلك، وفق يحيى، في إغراق الإدارات التونسية بموظفين يفتقرون إلى الكفاءة، مقابل إغلاق باب التوظيف أمام عموم التونسيين.
ومكّن مرسوم عُرف بـ”العفو التشريعي العام”، صدر في 19 شباط / فبراير 2011، حركة “النهضة” من انتداب الآلاف من أنصارها دون الالتزام بالقوانين المعمول بها في التوظيف بالقطاع الحكومي، ما ساهم في سيطرتها على مفاصل الدولة في تلك الفترة.
وعلاوة على كلفتها المادية الكبيرة، التي قدّرها خبراء بمئات ملايين الدولارات، تسببت تعيينات الإسلاميين في تسخير مؤسسات الدولة لخدمة مصالح الحزب الإسلامي، وكانت على سبيل المثال وراء ظهور جهاز أمني موازٍ داخل وزارة الداخلية، اتُّهم بالوقوف وراء الاغتيالات السياسية التي عاشتها تونس عام 2013.
وتنفي “النهضة” التهم الموجهة إليها، وتقول إنها تدخل في إطار تصفية حسابات سياسية.
أعداد كبيرة
وكان الرئيس التونسي قيس سعيد أول من دعا إلى فتح هذا الملف، ومنذ عام 2023 انطلقت تونس في عملية تدقيق واسعة لجميع الانتدابات التي تمت بعد 2011.
وتتضارب الأرقام بشأن عدد التعيينات حسب الولاءات بعد 2011، ويتحدث البعض عن مئات الآلاف من الأنصار الذين انتُدبوا وفق مبدأ الولاء الحزبي.
واستناداً إلى تقرير صادر عن “المرصد التونسي للاقتصاد” عام 2017، شهدت أعداد الانتدابات ارتفاعاً كبيراً في فترة حكم الإسلاميين، وبلغ إجمالي الانتدابات خلال الولاية الأولى لحزب النهضة نحو 72 ألفاً.
وارتفع عدد الموظفين في القطاع الحكومي في تونس من 217 ألفاً قبل 2011 إلى نحو 800 ألف موظف بعد 2011، ما ساهم في عجز المؤسسات عن أداء مهامها وإفلاس عدد منها.
وفي لقاء سابق برئيس لجنة التدقيق، كشف الرئيس قيس سعيد عن وجود أكثر من 2700 عملية انتداب تمّت بناءً على شهادات علمية مزورة.
مطلب شعبي
يقول النائب بدر الدين القمودي لـ”النهار”، إن ملف الانتدابات المشبوهة خلال فترة حكم الإسلاميين هو محل متابعة من سعيد شخصياً، ويشدد على أن الجميع ينتظر إحالتها إلى القضاء لمحاسبة المخالفين.
ويوضح: “التدقيق في انتدابات عشرية النهضة هو تلبية لمطلب المحاسبة الشعبي الذي رفعه التونسيون منذ 25 تموز/يوليو 2021”.
ووفق النائب التونسي، فإن هذا المطلب يدخل، من جهة أولى، في باب العدالة والإنصاف، ويعزز مبادئ الشفافية والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد. ومن جهة ثانية، يُغلق الباب مستقبلاً أمام كل محاولة لتسلّق الوظائف والمناصب في الدولة من باب الولاءات لهذا الطرف السياسي أو ذاك.
من جهته، يشدد النائب بوبكر يحيى على أن أعضاء اللجنة البرلمانية طالبوا بالمضي قدماً في هذا المسار، لأنه يبعث برسالة مهمة للرأي العام.
ويضيف: “يُنتظر أن يُشرع قريباً في عمليات انتداب جديدة بالقطاع الحكومي، ومن المؤكد أن محاسبة كل من خالفوا القانون سابقاً ستبعث برسالة رادعة لكل من يفكر في تجاوزه مستقبلاً”.