- أمينة الزياني
- الثلاثاء 28 أيلول 2021
على رغم الضربة الموجعة التي تلقّاها أخيراً، بانشقاق أكثر من 100 قيادي عن الحزب، يبدو زعيم حركة «النهضة»، راشد الغنوشي، ماضياً في وضع رهانه على الشارع، أملاً في توسيع دائرة الرفض لإجراءات الرئيس قيس سعيد، واستعادة صورة الحركة الملاحَقة والمضطهدة، بما يخدم هدف استرجاع شعبيتها. في المقابل، يَظهر سعيد متنبّهاً إلى تلك الرهانات، وهو ما سيدفعه إلى الإسراع في تعيين رئيس للحكومة، ومحاذرة الانجرار إلى مواجهة في الشارع، في وقت تتشكّل فيه حوله جبهة «قومية» مؤيدة لهتونس | تعيش حركة «النهضة» التونسية، هذه الأيام، على وقع انشقاق كبير في هياكلها، لطالما حاول زعيمها، راشد الغنوشي، تفاديه عبر توافقات داخلية جعلت من انقسام الحركة أمراً مؤجّلاً. ولكن الغنوشي أخفق، هذه المرّة، في مناوراته، بل صعّد الصراع الداخلي إلى درجة جعلت استقالة 113 قيادياً من الحزب أمراً محتوماً. على أن التوقيت الذي اختارته هذه المجموعة لتنفيذ خطوتها ليس دون دلالة، إذ إنه يكشف ـــ عقب صدور الأوامر الرئاسية الأخيرة في 22 أيلول ـــ جانباً من البراغماتية لدى المغادرين، الذين فضّلوا القفز من سفينة قد تغرق في أيّ وقت، والعكوف على إعداد مخطّط إنقاذ ربّما تتّضح ملامحه لاحقاً، على أن تكون نهاية المطاف إمّا العودة إلى أحضان الحركة الأمّ إذا ما نجت من عاصفة 25 تموز، أو السعي لتقديم بناءٍ جديدٍ بديل. ولعلّ ما عزّز دوافع هؤلاء الذين يحظون بنوع من المصداقية للانشقاق هو تنامي السخط الشعبي على «النهضة»، التي تُحمّلها فئة واسعة من التونسيين مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتسميم الأجواء السياسية عبر ممارسات «لاديمقراطية» استهدفت تشويه الخصوم وترذيلهم، وترسيخ أساليب التنفّع من دائرة العلاقات والنفوذ والتحالف مع الفاسدين في سبيل الحفاظ على السلطة، ومواجهة المطالب الشعبية بالقمع والاعتقالات، فضلاً عن بدء «حرب إعلامية»، أخيراً، ضدّ الرئيس قيس سعيد عبر عقود الحشد والمناصرة في دوائر القرار العالمية، بتكلفة بلغت ملايين الدولارات، وهو الأمر الذي لن يغفره كثيرون لـ«النهضة»، حتى من بين المناوئين لسعيد وإجراءاته.
لم تغادر القيادات «النهضوية» الغاضبة حزبها منذ مؤتمره العاشر سنة 2016، حيث برزت خلافات حادّة على وقع فصل الدعَوي عن السياسي، والانتقال من الارتباط بالتنظيم «الإخواني» إلى المدنية التونسية، وما استتبعه ذلك من إبعاد لمؤسّسي الحزب وشخصيات جيل السجون والاعتقالات، وإنهاء دورهم ليتربّع الغنوشي وحده على رأس الحركة. كما لم يستقِل أيّ منهم عندما أخفقوا في تمرير مقترحهم بانتخاب أعضاء المكتب التنفيذي، وهو الهيكل التسييري للحزب، بدل تعيينهم من قِبَل الغنوشي، علماً أن الخلاف الأخير نقل النقاش من الفضاء «النهضوي» الضيّق إلى الفضاء العام، وسط اتّهامات بَيْنية بـ«الخيانة» وكشْف الحزب أمام «أعدائه». على أن الانقسام لم يكن، في واقع الأمر، في أيّ من مراحله، على الخيارات السياسية، بل تمحور حول مسألة القيادة والممارسة الديمقراطية داخل الحزب، وهو ما تجلّى، مثلاً، في اجتماع «النهضويين» كافة على سياسة تفكيك الخصوم من الداخل، لتبقى الحركة وحدها الأقوى على الساحة، مع ما خلّفه هذا من انعكاسات على تمثّلات التونسيين للأحزاب، وتشكّل وعيهم بالعمل السياسي ككلّ.
حتى لو أقدم سعيد على إعلان الحكومة، فإن الدعوات إلى التظاهر ستستمرّ في الفترة المقبلة
وفي هذه المرّة أيضاً، لم يختلف «النهضويون» على مسؤولية الحزب عن إهدار فرصة البناء والتأسيس على قاعدة ديمقراطية حقيقية، وإنما على أداء القيادة التي تعنّتت لتحصل على ما عدّته «حتمية تاريخية»، وهو الخروج من قيادة الحزب نحو قيادة الدولة، على رغم أن الأرضية لم تكن جاهزة بعد. وسبق للمجموعة المنشقّة أن توجّهت إلى الرأي العام في مناسبتَين العام الماضي، عبر رسالتَين علنيتَين طالبت فيها الغنوشي بعقد المؤتمر الحادي عشر لـ«النهضة»، وإبعاد حاشيته عن مركز القرار في الحركة، والتنحّي عن رئاسة البرلمان والحزب، نتيجة تراجع شعبيّته وشعبية الأخير. إلا أن تجاهل الغنوشي للرسالتَين، وردّه عليهما بفوقية تجسّدت في قوله إن «الزعماء جلودهم خشنة لا تربكهم الرسائل»، دفعا مجموعة المئة إلى تصعيد إعلامي، لتُسارع قيادة «النهضة» على إثره إلى تهدئة الوضع عبر الوعد بالتسريع في عقد المؤتمر (بعد سنة من التأخير) وإجراء إصلاحات داخلية. لكن، كما كان متوقّعاً، لم يفِ الغنوشي بوعده، بل سعى لتجريد أغلب الموقّعين من أيّ دور قيادي، لينتهي به الأمر إلى حلّ المكتب التنفيذي عقب إجراءات 25 تموز، واحتكار آلية الردّ على تلك الإجراءات عبر لجنة أنشأها للغرض المذكور.
ومن هنا، أشار المستقيلون، في بيانهم، إلى أن مغادرتهم الحزب تُمثّل «نتيجة طبيعية لاستفراد مجموعة من الموالين لرئيسها بالقرار داخلها، خاصة في السنوات الأخيرة»، حيث لم يَعُد الأمر «شأناً حزبياً داخلياً»، بل «كان رجع صداه قرارات وخيارات خاطئة». وتتبرّأ المجموعة بذلك من التحالفات «اللامنطقية» والبدائل الشعبوية التي اعتمدت عليها «النهضة» بعد قطيعتها مع القوى السياسية والمدنية، وتتنصّل من خيارات الحزب التي أدت إلى نقض التعهّدات مع الناخبين، والتحالفات البرلمانية غير السليمة، والقوانين التي حامت حولها شبهات. وإذ لم ينفِ الموقّعون مسؤولية بعضهم عن ذلك الواقع نظراً إلى تبوّئهم مسؤوليات حزبية أو حكومية آنذاك، فهم حمّلوا القسط الأكبر من المسؤولية للغنوشي، معلنين أن لا مشروع حزبياً جاهزاً ينتظرهم، وأنهم مستعدّون لخوض تجارب أخرى حال نضوج الفكرة. وبمغادرة هؤلاء، يكون الغنوشي قد فقد زمام التحكّم بالصراعات الداخلية للحزب، وتلقّى ضربة موجعة، بعدما وضع رهانه على الشارع، بالتقاطع مع خصوم «النهضة»، للوقوف بوجه قرارات سعيد وتجريدها من المشروعية الشعبية، وهو رهان يبدو أنه لا يزال قائماً، وفق ما أظهره، أخيراً، التجمّع الذي ضمّ مئات من المنتمين إلى «النهضة»، جنباً إلى جنب مع الرافضين لمسار 25 تموز من يساريين وأحزاب اجتماعية وحقوقيين، أو الملتحقين بهذا الركب بعد قرارات 22 أيلول، في الشارع الرئيس في العاصمة يوم الأحد، حيث رُفعت شعارات مطالِبة بعزل سعيد، ومحاكمة «معاوني الانقلاب»، والعودة إلى دستور البلاد. وفي حين لم يُسجّل تصادم مع قوات الأمن على رغم اتهامها بالوقوف في صفّ «الدكتاتور» ودعوتها إلى العصيان، أحجم أنصار سعيد، خلافاً للتظاهرة السابقة، عن النزول بوجه خصومهم، ما ينبئ بوجود توجيهات من القصر بعدم مقابلة الشارع بالشارع، وبأن الرئيس يعدّ ردّاً من نوع آخر، يرجَّح أن يكون عبر الإعلان عن الحكومة ورئيسها في الساعات المقبلة.
يبدو أن جبهة «قومية» بدأت تتشكّل حول الرئيس التونسي، من أحزاب ذات خلفية اشتراكية قومية
لكن حتى لو أقدم سعيد على إعلان الحكومة، وتحديد فترة زمنية لإجراءاته الاستثنائية، فإن الدعوات إلى التظاهر ستستمرّ في الفترة المقبلة، بهدف تعرية الرئيس من أيّ غطاء شعبي، وتوسيع دائرة خصومه، ودفعه نحو ردّ فعل متشنّج وعدواني تستفيد من خلاله «النهضة» من مناخ المظلومية، وتسترجع عمقها الشعبي بعودة صورتها في المخيال الشعبي قبل الثورة، كحركة مستهدَفة وملاحَقة ومضطهدة. وبينما تتوسّع قاعدة خصوم سعيد على رغم اعتقاد جزء كبير منهم بأن العودة إلى ما قبل 25 تموز لا تقلّ سوءاً عن الوضع الحالي، يبدو أن جبهة «قومية» بدأت تتشكّل حول الرئيس، من أحزاب ذات خلفية اشتراكية قومية (ناصريون عروبيون ويسار عمالي)، بغرض حماية «مسار الإصلاح» من أيّ رَدّة تعيد الحُكم إلى «النهضة» وشركائها. ويبدو منطقياً أن تصطفّ هذه الكتلة اليسارية بمختلف تلويناتها حول سعيد، الذي يشاطرها شعارات مبدئية منحازة إلى الطبقات الشعبية، ويغريها في السياق ذاته رفض الرجل للإملاءات الخارجية، وتشبّثه بمبدأ سيادة القرار الوطني أمام مموّلي جزءٍ مهمّ من ميزانية البلاد من مانحين دوليين ودول عظمى. ولا تَعتبر هذه الأحزاب سعيد جزءاً من المنظومة التي تصفها بالفساد، بالنظر إلى رفضه التحالف معها منذ تنصيبه، واغتنامه التوقيت المناسب للتمرّد عليها عبر قراراته الأخيرة.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)