جاء إحياء ذكرى انتفاضة 2011 في تونس، هذا العام، مليئاً بالمفارقات؛ إذ بدا شارع الحبيب بو رقيبة، بالمناسبة، أقرب إلى فسيفساء جامعة للمتناقضات، وإنْ علا من بينها صوت واحد مناهض للرئيس قيس سعيد وسياساته. صوتٌ لا يبدو أن الأخير يلقي له بالاً، في ظلّ مضيّه في مشروعه الذي تقتضي خطوته التالية تنظيم الدور الثاني من الانتخابات، فيما تسلك «منظّمة الشغيلة» مسار تصعيد تدريجي، محذّرة من أنها «لن ترضى ببقاء الأوضاع في البلاد على حالها»
تونس | تتزاحم في تونس مبادرات الحلّ السياسي و«الإنقاذ الوطني»، من دون أن تُحدث فارقاً يُذكر في المشهد. ويأتي هذا التزاحم بالتزامن مع ذكرى انتفاضة 2011، التي حوّلتها مكوّنات المنظومة الحاكمة سابقاً إلى مناسبة لتصعيد تحرّكها ضدّ الرئيس قيس سعيد ومشروعه الفردي، تحت شعار «ارحل»، المستعاد من شعارات الانتفاضة ضدّ الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي. وبدا ذلك المشهد زاخراً بالمفارقات، وأولاها تصدير مطالب الفئات المهمَّشة من قِبَل الأطراف نفسها التي تولّت الحُكم لعشر سنوات، وأدّت سياساتها إلى تعميق معاناة تلك الفئات. أمّا ثاني المفارقات، فهي أن المعارضة، على رغم أنها استطاعت هذه المرّة حشْد الآلاف من المحتجّين، إلّا أنها بدت منقسِمة في أهدافها؛ فجبهة «الخلاص الوطني» التي تضمّ حزبَي «النهضة» و«قلب تونس»، دعت إلى عودة البرلمان، فيما التيّار الديموقراطي الذي يشمل الأحزاب الوسطية والاجتماعية طالب بحوار وطني يرتّب لمرحلة ما بعد سعيد ويلزم المشاركين بإصلاحات دستورية وقانونية، ويقيّدهم بجدول زمني معيّن للعمل عليها لا يتجاوز الانتخابات الرئاسية المقبلة نهاية العام المقبل. أمّا اليسار التقليدي، فعلى عادته، حرص على التذكير بأنه لا يرى في سعيد ولا في «النهضة» وحلفائها الخيار الأنسب للحُكم، داعياً إلى بديل شعبي قادر على حشْد التونسيين وإقناعهم بالانخراط مجدّداً في الشأن السياسي، مقدّماً نفسه بوصفه ذلك البديل، متناسياً النتائج الهزيلة التي حصدها في الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2019. أيضاً، كانت لدى فلول نظام بن علي الجرأة على المشاركة في إحياء ذكرى الانتفاضة، عبر «الحزب الدستوري الحر» وصاحبته عبير موسي، التي حاولت طرح حزبها بوصْفه الخيار الوحيد للخلاص، فيما وجدت الأحزاب المتشدّدة والممنوعة بمقتضى قرارات قضائية مساحة لها هي الأخرى، لتطالب بترك الديموقراطية الغربية وإقامة خلافة إسلامية.
ولكن شارع الحبيب بورقيبة احتضن، في المقابل، مَن قَدِموا ليتذكّروا أحلامهم وفرحهم الغامر بهرب بن علي في مِثل ذلك اليوم قبل اثنتي عشرة سنة، بينما بدا لافتاً أن أغلب الوجوه الثورية التي تصدّرت صفوف الحراك عام 2011، نأت بنفسها عن التظاهرات الحزبية، وحاولت التجمّع بعيداً، رافعةً شعار استرداد الآمال المسروقة. وعلى مسافة ليست ببعيدة، ظهر «الاتحاد العام التونسي للشغل» حريصاً على عدم اختلاط قواعده وقياداته مع بقيّة شرائح المحتجين، وخصوصاً الموالين لـ«جبهة الخلاص»، في الوقت نفسه الذي أطلق فيه مواقف تُعدّ الأقوى منذ مجاهرته بمعارضة سعيد. إذ قال الأمين العام للمنظمة، نور الدين الطبوبي، في كلمة مصوّرة، إن الاتحاد ماضٍ فعلاً في البحث عن خيار ثالث للبلاد التي لا يمكن أن تظلّ رازحة تحت منظومة الفشل بمكوّناتها المختلفة، أي بالرئيس ومَن سبقه. وذكّر الطبوبي بأنه في لقاءاته الأولى مع سعيد بُعيد إجراءات 25 تموز، كان قد حذّر من الاستفراد بالرأي والمضيّ في إقامة مشاريع سياسية مجهولة وغير تشاركية، لكنه لم يَجد آذاناً صاغية إلى تحذيراته. ودعا إلى الاستعداد «لمعركة وطنية» لإنقاذ البلاد، مؤكداً أن «الاتحاد لن يرضى ببقاء الأوضاع في البلاد على حالها».
أكد «الاتحاد العام التونسي للشغل» أنه ماضٍ في البحث عن خيار ثالث لإنقاذ البلاد
بناءً على هذا الموقف، بات من غير المستبعد أن يَخرج الاتحاد، برفقة نقابة المحامين و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان»، من دائرة الدعوة إلى الحوار ووضع التصوّرات، إلى دائرة الفعل و«النضال»، فيما تغيب «منظمة رجال الأعمال» التي انحازت إلى سعيد، وأغرقتْه بالدعم مقابل استمرار حصول رجال الأعمال على امتيازاتهم. وكانت قيادات الاتحاد قد دأبت على توجيه التحذيرات إلى سعيد من أنها ستَخرج إلى الشارع وتتحرّك على أكثر من صعيد من أجل إجباره على الخضوع لمبادرة المنظّمة النقابية التي لا تختلف، في الواقع، عن الحوار الذي عقده الرئيس منذ أشهر، لناحية إقصاء الأحزاب السياسية المشارِكة في منظومة الحكم قبل 25 تموز، فيما تتباين معه في طرْح إصلاحات دستورية وقانونية وإعلاء الأزمة الاقتصادية على الإصلاح السياسي.
في المقابل، يواصل سعيد تجاهُل هذا الحراك، مكتفياً بإلقاء كلمة يوم 13 كانون الثاني، كرّر فيها القول إن «الثورة يُحتفى بها في ذكرى إحراق محمد البوعزيزي نفسه في 17 كانون الثاني 2010، لا في ذكرى هروب بن علي»، مشدّداً على أن سرديته هذه، التي فرضها بموجب مرسوم، هي الأصوب. وأضاف، في ظهور مقتضب ومتشنّج من شارع الحبيب بورقيبة، إنه لا يخشى مَن وصفهم بالخونة والعملاء، مغرقاً التونسيين بالحديث عن المتآمرين وعن الأمل والعمل، في وقت تشتدّ فيه الأزمة الاقتصادية وتنهار المقدرة الشرائية وتشحّ المواد التموينية الأساسية، ما جعل خطابه الأخير وما سبقه من خطابات مماثلة محلّ تندّر. ذاك أنه بالنسبة إلى عموم الناس، لا يمكن إسكات الجوع بالشعارات، ولا مكافحة الفقر وتآكل الطبقات الاجتماعية بالأوهام وخطاب المؤامرة، حتى وإن وُجدت هذه الأخيرة فعلاً. وإمعاناً من قِبل سعيد في تجاهل خصومه، خرجت «الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات»، أمس، في ندوة صحافية، لتعلن نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية التي جرت في 17 كانون الأول الماضي، والبدء بتحضيرات الدور الثاني من هذا الاستحقاق الذي سجّل أدنى نسبة مشاركة من قِبل الناخبين. وبدت الهيئة، في تقديمها لتفاصيل الدور الثاني، كأنها لم تستوعب بتاتاً رسالة العزوف في الدور الأول، وحجم الانتقادات الموجَّهة إليها وإلى النظام الانتخابي الذي ابتدعه الرئيس.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية