للمرّة الأولى منذ أشهر، أظهر قيس سعيد تراجعاً في خطابه السياسي، بإعلانه نيّته إشراك الجميع في صياغة الإصلاحات الدستورية قبل عرضها على الاستفتاء. وفي الاتّجاه نفسه، إنّما على المستوى الاقتصادي، أصدر سعيد ثلاثة مراسيم، لم يبدُ من خلال أيّ منها أن ثمّة نيّة للقطع مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اعتُمدت في البلاد منذ سنة 1986
تونس | أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيد، في خطاب ليل الأحد – الإثنين، إمضاءه ثلاثة مراسيم يتعلّق أوّلها بالصلح الجزائي مع حاشية الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وثانيها بالجمعيات الأهلية، وثالثها بالمضاربة غير المشروعة، فيما حملت كلمته رسائل سياسية توحي بانفراجة في الوضع، من حيث إشراك الجميع في صياغة الإصلاحات الدستورية قبل عرضها على لجنة الصياغة، ومن ثمّ على الاستفتاء الشعبي. ويستند المرسوم الأوّل إلى قائمة وُضعت عقب فرار ابن علي، وحصرت أسماء مَن أثْروا على حساب المال العام، من عائلته ورجال الأعمال المقرَّبين منه أو المشمولين بحمايته، قبل أن تتوسّع نهاية عام 2011 لتشمل كلّ من ثبت تهرّبهم من واجبهم الجبائي واختلاسهم للمال العام من المقرّبين من النظام السابق. ويضع القرار الجديد خطّاً لاسترجاع الأموال العامة من هؤلاء مقابل العفو الجبائي، ما سيسمح لكثيرين منهم باستئناف استثماراتهم في البلاد من دون تتبّع قضائي أو جمركي أو مالي، وهو ما يراهن عليه سعيد.
لكنّ النتائج المرجوّة من المرسوم الأول تبدو ضعيفة لعدّة أسباب، أوّلها أن أغلب المعنيّين به استأنفوا فعلاً استثماراتهم واستعادوا أملاكهم نتيجة توافقات مع السلطة الحاكمة، بلغت أوجها في عهد الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، الذي تَوّج هذا المسار بقانون المصالحة، فيما لم يتّضح بعد ما إن كان سعيد سيُبطل القانون المذكور. ويفرض المرسوم الجديد على رجال الأعمال الاستثمار في الأماكن الأكثر فقراً في البلاد مقابل العفو، حيث يجري التعويل على تململ هؤلاء من المسار القضائي، وما تخلّله من ابتزاز ومقايضات طيلة العشرية الماضية، لينخرطوا بشكل فاعل في مبادرة سعيد. لكنّ المفارقة في كلّ ذلك هي التشبّث بحقبة ابن علي كسبب وحيد للانهيار الاقتصادي، وأيضاً كباب للخروج منه، ما يثير مخاوف من إهمال سنوات العشرية التي تتالت فيها الصفقات الفضائحية، متسبّبةً بإهدار المال العام، والدخول في اتفاقات اقتصادية مشبوهة تمّ فيها غضّ الطرف عن المهرّبين، إلى حدّ أن اثنين من كبار المذكورين ترشّحا للانتخابات التشريعية، وفازا بمقعدين في عهدتَين برلمانيتَين متتاليتَين.
فتح سعيد نافذة للحوار لا تزال غامضة مُعلِناً نيّته إشراك الجميع في صياغة الإصلاحات الدستورية
أمّا مرسوم سعيد الثاني، فيقضي ببعث نوع جديد من الشركات أو الجمعيات، تُسمّى الجمعيات الأهلية. وهو نموذج كان محلّ ترحيب لم تنسه الذاكرة الجماعية، مع تجربة «واحات جمنة» سنة 2016، حيث نادت أطراف عديدة آنذاك بتطبيق مقولة «الأرض ملك المنتجين»، قبل أن يتبلور ذلك في مشروع قدّمه «الاتحاد العام التونسي للشغل» إلى البرلمان، الذي تبنّاه لاحقاً بعد سنوات من التأجيل، إنما كان مشوَّهاً ومنقوصاً، ومن دون خلق خطّ تمويل له في قانون الميزانية، ولا وضع النصوص القانونية اللازمة لتطبيقه. ومن هنا، لا يبدو مستغرباً أن يلقى مشروع سعيد للجمعيات الأهلية كلّ هذا الرفض، نظراً إلى مصدره قبل محتواه، ولكنّ المعارضين اكتفوا في مهاجمتهم المشروع باستعادة صور في المخيال الجماعي التونسي عن تجربة التعاضد في نهاية ستينيات القرن الماضي، وأخرى للرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي، الأمر الذي يعوزه المنطق لإقناع التونسيين به. وبالنسبة إلى المرسوم الأخير، فهو يشدّد العقوبات على المضاربين والمحتكرين، الذين سارع بعض المعارضين إلى نفي وجودهم، على رغم أن خطابهم كان مبنيّاً على محاربة الاحتكار. وتُظهر الأرقام الرسمية فجوة مهولة بين ما يُضخّ من مواد تموينية مدعومة في الأسواق، وما يصل إلى التونسيين فعلاً، حيث تُساق البضائع المفقودة إلى الجزائر وليبيا، وتُباع كما هي أو معاداً تغليفها، فيما يشتكي المواطنون نقصها أو فقدانها التامّ في مراكز التوزيع
على أيّ حال، فإن مبادرات الرئيس لن تكون ذات تأثير كبير، طالما لم يعلن سعيد، بشكل حاسم، قطعه مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اعتُمدت في البلاد منذ سنة 1986، ورافقها تحرير للسوق وتعويل على السوق الأوروبية، وما جنته «اتفاقية الشريك المميّز» مع الاتحاد الأوروبي على الفلاحة التونسية التي أضحت لا تنتج إلّا ما يحتاج إليه الأوروبيون، لا ما تحتاج إليه السوق المحلية، فيما انصرفت تونس للتعويل على مورّدين أجانب في شتلات كانت تتصدّر المنطقة فيها. أمّا التصنيع، فقد سحبت الدولة في تلك الحقبة مساهماتها فيه، وفتحت للمستثمرين الأجانب السوق لتوفّر لهم الامتيازات الجبائية والمواد الأولية واليد العاملة بأثمان بخسة، من دون أيّ مسؤولية مجتمعية أو تنموية، ما يعني غياب أيّ إسهام في الناتج المحلي أو في التنمية المحلية. وقد أكد «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، في مناسبات عدّة، أن لا إصلاح حقيقياً قبل القطع التامّ مع سياسات الثمانينيات، ومراجعة الاتفاقيات، والتعويل على الموارد الذاتية في بناء الاقتصاد.
بالتزامن مع ذلك، فتح سعيد نافذة للحوار لا تزال غامضة، معلناً نيّته إشراك الجميع في صياغة الإصلاحات الدستورية قبل انطلاق أعمال لجنة الصياغة التي سيعيّنها من خبراء القانون، وقبل عرض الصيغة النهائية على الاستفتاء الشعبي. ويثير هذا الإعلان تساؤلات حول ما إن كان المقصود بحديث سعيد «اتحاد الشغل» و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» ونقابة المحامين، باعتبارها منظّمات وطنية لم تدخل في صدام مباشر معه منذ 25 تموز الماضي، أم أنه يشمل الطبقة السياسية والنخب كافة. في المقابل، يبقى موقف المعارضة، إن دُعيت إلى المشاركة، محلّ تساؤل أيضاً، خصوصاً أن جزءاً منها، وهو الذي يتصدّر وسائل الإعلام والساحات للاحتجاج الدوري على سعيد، يريد العودة إلى منظومة الحصانة والامتيازات بأيّ ثمن، ما يعني أنه قد ينخرط في الحوار مع سعيد، في إطار براغماتية اقتسام الفضاء العام معه، والمراهنة على العودة عبر بوابة الانتخابات التشريعية المبكرة.
(سيرياهوم نيوز3-الاخبار22-3-2022)