| عماد عطالله
ترتيب المنزل يعني، مجازياً، كتابٌ على الرف وكرامةٌ في النفس، حليب في البرّاد وخبز على الطاولة، حرية فردية وتعددية متناغمة. مفهوم النظام هذا يلخّص في الحد الأدنى حاجة كل بيت، مجتمع، وبلد للاستقرار غير السلطوي. الفوضى المنزلية تنفّر الأصيل في الداخل وتجذب الكفيل من الخارج. هناك طفيليات على شكل إدارات حكومية في العالم تستغل النعرات الداخلية في مجتمعات الآخرين، خصوصاً الشمولية بينها، لتتسرب عبر الثغرات. سوريا؟ فنزويلا؟ ليبيا؟ العراق؟ ربما الصين مستقبلاً؟ ها وقد نجحت مرة أخرى بعض التسربات التخريبية إلى الداخل الإيراني في الفترة الأخيرة، لا تُعتبر هذه التسربات الحدث الأهم في المنظار الشعبي. على إيران ترتيب منزلها قبل فوات الأوان، خشية أن تنهار من الداخل فتنقض عليها أعاصير الخارج المعلّبة، وما أكثرها. لا يفيد التذرع الكلاسيكي بتفاصيل الهجوم الأميركي المستمر، على صحته وبشاعته، لتدمير إيران ــ الخميني، كما إيران ــ مصدق قبلها في الخمسينيات. أن يحصّن أصحاب البيت منزلهم من الداخل طالما الفرصة سانحة هو الأساس في وجه الزلازل الخارجية مهما عظمت. تأمّلوا لبنان: حالة مستحيلة لا نتمنّاها لأحد.
لنفترض أن سفينة ثيسيوس (كما حفظها المؤرخ بلوتارخ في كتابه) أبحرت من ضفاف الأسطورة الإغريقية لزيارة الخليج الفارسي. ولنسمح أيضاً أن القبطان وفريقه البحري قاموا بأعمال الصيانة اليومية للأعطاب الكثيرة خلال فترة السفر، فغيّروا قطع الخشب المكسورة واستبدلوا الأجزاء المعطوبة كل يوم. هل تكون السفينة التي انطلقت من أوّل نقطة في اليونان هي نفسها عند مرساها في بلاد فارس، بعد أن استُبدِلت جميع مكوناتها واحدة تلو الأخرى؟ المفارقة الفكرية التي تمثلها سفينة ثيسيوس تدور حول ما إذا كان الكائن يبقى تمام الشيء نفسه بعد استبدال جميع مكوناته الأصلية. حياة الإنسان عيش تراكمي والفرد يتأثر بالتفاعلات والتحولات شبه اليومية في ظروفه. هل ذلك ينطبق على المجتمعات والأوطان، أم جميعها مجمّدة في قوالب لا تتطور بأي اتجاه؟ طبعاً لا.
أبحرت الثورة الإيرانية عام 1978. أسقطت الشاه والسافاك وحكم الدولة البوليسية. أسست ركائز شبه ديموقراطية في النظام السياسي ولكن متزايدة الزيف والفساد مع الوقت، فتغيّرت أحوال البلاد وظروفها، بينها البنّاءة والضّارة، بحسب الأمواج الداخلية والأعاصير الخارجية وموقعها تحت الشمس. اليوم باتت إيران ترسل أقماراً اصطناعية إلى الفضاء وتتمتع بسيادة كاملة في إدارة شؤونها ومواردها الطبيعية بالرغم من حصار أميركي خبيث. لكن هل من يعتقد أن الشعب الذي أطاح بِواحدة من أعتى ديكتاتوريات العالم هو نفسه على جماد مزمن بعد نصف قرن؟ استبدلت إيران جميع مكوناتها واحدة تلو الأخرى؛ ألم تنتهِ صلاحية الثورة تقنياً أو عملياً (وليس معنوياً) وتغيّرت حلّتها بعد كل التحولات في حياة الإيرانيين على أبواب الـ 2023؟ يبدو أن ورثة الثورة في السلطة ما زالوا يتصرفون بعقلية الـ 1978، فيتعاملون مع حاجات مجتمع اليوم بأدوات عسكراتيرية خانقة وذهنية مغلقة ومتعالية. الأوكسجين الاجتماعي ضئيل والفسحة السياسية ضيقة جداً وجيب المواطن فارغ. ربما لدى الرعيل الأوّل إحساس بالخوف أو نقص في الأمان الشخصي أمام ما ولّدته الثورة الأصلية من أجيال جديدة قديرة وواعية، ولكن بتوجهات اجتماعية عصرية ذي شروط ومتطلبات لا تتماشى مع سبعينيات القرن الماضي. ربما الخطأ الأكبر يكمن في تأطير كل ما هو جديد في خانة الخطر الداهم.
في آخر تسجيل إذاعي عام 1951 للعالِم في الرياضيات آلان تورينج (أتمنى إحسان ترجمة المعنى هنا) قال: «إذا تمكّنَت الآلة من التفكير، من المعقول أن تفكر بشكل أكثر ذكاءً مِنّا. فأين نكون مقارنةً بها؟ حتى لو تمكّنا من إبقاء الآلة تحت سيطرتنا، مثلاً عبر قطع التغذية الكهربائية عنها في الوقت الاستراتيجي المناسب، يجب علينا كجنس بشري أن نشعر بالتواضع الشديد. يمكن لهذا الخطر الجديد أن يسبّب لنا الكثير من القلق». يبدو لي أن جيل الثورة الأوّل في إيران لا يشعر بأي تواضع لكنه قلقٌ لدرجة دق ناقوس الخطر عالياً، وهو برأيي خطأ جسيم دون مستوى القِيَم الأخلاقية للثورة والتطوّر الطبيعي في الحياة. سفينة ثيسيوس، كشيء خشبي أو معدني، لا تتمتع بِسمات الوعي والشعور، لكن البشر موصولون طبيعياً بِشبكة معقدة من الإدراك والأحاسيس. حالة الوعي الإنساني مقيدة باعتبارات الأخلاق الحميدة، لأنها مسؤولة عن تفسير التجربة وتلمّس التغييرات، بما فيها النمو والازدهار والمعاناة والألم.
للارتقاء إلى حالة أمة فائقة الأخلاقيات والذكاء والوعي، ما من فائدة في إعاقة حرية الإبداع الفردية فيها
على مدار نصف قرن، النسيج الحياتي للثورة ولا بد استبدل نفسه بشكل تراكمي وطبيعي، وبالنسيج أعني القادة والناس والديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية المتداخلة بالظروف المحلية والعالمية. إيران اليوم لا يمكن أن تتألف من نفس الطينة السابقة في الـ78. إذا كانت ثقافة الثورة القديمة تتوقع أن تبقى على حالها مع الزمن، فمن الأرجح أن يكون القادة الحاليون متوهمون بأنهم يتعاملون مع الشعب على أنه طاولات وكراسي وخزائن، أي قطع أثاث وأشياء أو حتى حيوانات فطرية عديمة الإدراك، بدلاً عن كائنات بشرية متفاعلة. ليست الثورات فوق التطور الطبيعي أو فوق قانون «الانتقاء الطبيعي» الذي يميز بين العقل البشري الواعي المطور لنفسه والبقرة المكتفية بتناول نفس العشب في نفس الحقل على مدار العمر.
من البديهي أن يكون للواقع الإيراني اليوم وعي وإدراك يختلفان عن ديناميكيات الثورة الأصلية. لا يجوز التعامل مع هذا الوعي الناشئ وكأنه شيء لم يكن أو خطر مقلق يجب إحباطه. لا يجب على إيران العودة إلى وتيرة العمل نفسها كالمعتاد بعد الهيجان الشعبي الحالي. مصر (السيسي بعد مبارك) عود على بدء ومثال حي على القنبلة الشعبية المؤجلة. طبعاً هناك دور استغلالي فظيع تلعبه القوى الأجنبية والإقليمية المستفيدة من الانقسامات الداخلية. لا تختلف إيران عن غيرها من البلدان المتأزّمة، بما فيها القوى الأجنبية والإقليمية ذاتها (الممالك العربية الديكتاتورية، إسرائيل والعنصرية الاستيطانية، أميركا وانقساماتها المتزايدة وسيطرة الشركات، أوروبا وفاشيّتها المتجددة)، كما روسيا (البلوتوقراطية والشوفينية الوطنية وتكبدات الحرب الأوكرانية) والصين (التجسس العلني على الشعب وتكنولوجيا تمييز الوجوه، رصد أبواب المنازل بالقوة بحجة كوفيد، الإيغور، التِبت، هونغ كونغ، تايوان، الخ).
أشار لي صديقي الإيراني حميد دباشي، وهو أستاذ في الدراسات الإيرانية بجامعة كولومبيا في نيويورك، أنه «من العنجهية المذهلة القول لأمة تضم 85 مليون نسمة، فيها الملايين من الذين يخاطرون بحياتهم في شوارع نحو 140 مدينة، بينهم عشرات آلاف المعتقلين يعانون في السجون ومئات القتلى بما في ذلك الشابات والأطفال» إنهم أدوات في قبضة القوى الأجنبية. يكمل دباشي أنه «بدون شك هناك دول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وخاصةً المملكة العربية السعودية، متوهمون في التفكير في أنهم يستطيعون التلاعب بالإيرانيين لإسقاط هذا النظام نيابة عنهم. ليس من مصلحة [هذه الدول] أن تكون إيران أمة حرة، مستقلة، وفخورة؛ في الواقع يفضلون أن تكون إيران دولة فاسدة، ضعيفة، ومهزومة تماماً كالنظام الحالي في طهران الذي يستغلونه لمصالحهم. لذا يهدف التلاعب الخارجي إلى إضعاف قوة إيران الإقليمية وليس إسقاط النظام، لأن البديل الناجح بالتأكيد لن يكون في مصلحة» هذه الدول.
يتعامل القيّمون على السياسات الخارجية للدول الغربية وكأن بقية العالم مسرح أكس ــ باكس افتراضي. ربما بعضهم ما زال يعاني من التأثير النفسي لألعاب الفيديو منذ سنوات المراهقة، حيث الإصبع على الزناد جاهز لإطلاق شعاع الليزر بلا هوادة على السود وذوي البشرة الداكنة. لكن من الحماقة الافتراض أنه ستتبخر رأساً مشكلات إيران إذا اختفت الولايات المتحدة الأميركية والقوى الأوروبية من الوجود اليوم. يوجد علاقة قوية بين الأمن الوطني من جهة والحرية الفردية والسياسية من الجهة الأخرى. طبعاً العلاقة ليست بالضرورة عكسية. تقليل الحريات لا يعني أبداً زيادة الأمن الداخلي، بل الواقع في العالم أجمع يدل على أن خنق الأولى يهدد قدرة الدولة على تقوية الثاني. التضييق على الداخل غالباً ما يؤدي إلى تفككه، ومن المؤكد أن تفكك الداخل يضعف مناعة المجتمع ضد تدخلات الخارج العدائية.
ليست المجتمعات مختبراً لتصميم ذكاء اصطناعي يحمّله المبرمجون (الحكام) على رقائق إلكترونية (الدماغ البشري) للروبوتات (الشعب). كان ممكناً في القرون الغابرة والجاهلة برمجة خواطر الشعوب وعاداتها وتصرفاتها بحسب أهواء النظريات السماوية ونزوات الطغاة. لكن سعادة الفرد اليوم تكمن في التصرف والتفكير والتعبير بأي طريقة يرضى بها لنفسه طالما أنه لا يلحق الضرر بالممتلكات العامة أو الخاصة بالآخرين ورفاهيتهم. الشعوب التي تدرك مصلحتها ليست أرقاماً وأدوات (ما عدا الهائم على وجهه في إلكترونيات التواصل الاجتماعي). للارتقاء إلى حالة أمة فائقة الأخلاقيات والذكاء والوعي، ما من فائدة في إعاقة حرية الإبداع الفردية فيها. يتم تدمير الإنسان والحاكم معاً مع كل نزوة ديكتاتورية تنتقص من الرصيد الأخلاقي للشخص والجماعة.
إذا كان هدف السلطة في إيران إدارة مواطنين خاضعين داخل سور من القرون الوسطى، فلتتخذ كوريا الشمالية كنموذج للطغيان. لكن هذا لا يليق بحاضر إيران أو ثورتها على الشاه أو تاريخها الحضاري. في المقابل، يقف شفيع البلاد الأوّل، الإمام علي بن أبي طالب، مثالاً شامخاً في ربط الأفعال وتطور الإنسان بالقيم الأخلاقية. فإذا استنطَقه الشعب في ما تعيشه البلاد، هل كان يقبل الإمام بما آلت إليه أحوال الناس من كبت وفساد؟ ربما يذكّرهم أنه «لاَ يُغيّر ما بِقَومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم»، مروراً بتذكير السلطة الإيرانية بكلمة مأثورة ليسوع المسيح «ماذا ينفعك إذا ربحت العالم وخسرت نفسك» أي شعبك. حميد دباشي يحدد مشروعية مطالب المتظاهرين الجوهرية «ضد الفساد وعدم كفاءة الاقتصاد المفلس». يضيف دباشي «نعم، فاقمت العقوبات الأميركية هذا الاقتصاد المختل ولكن السبب الأساسي هو الفساد وعدم كفاءة النظام الحاكم. يجب على الدولة أن تغير نفسها بشكل جذري لتصبح ديموقراطية تمثيلية مبنية على حرية الصحافة، التجمعات السلمية، الأحزاب السياسية، إعادة تخصيص مواردها للشؤون الداخلية، وتجديد السياسة الإقليمية التدخلية، بمعنى آخر ألا تكون الجمهورية الإسلامية هي الجمهورية الإسلامية التي عرفناها على مدى السنوات الـ 43 الماضية – وهو أمر مستحيل». برأيي «التجديد» كما ذكره دباشي، أمر أساسي ودائم في السياسة الخارجية بحسب المستجدات الإقليمية، من دون خسارة دور إيران الإقليمي كورقة ضغط لمجابهة الخناق المستحكم عليها من أميركا وإسرائيل وأدواتهما في المنطقة (علماً أن وجود القوات الأميركية يمثل تهديداً صارخاً على بُعد أميال قليلة من الحدود الإيرانية البرية والبحرية)، ومانعاً أساسياً يبعد العدوان العسكري عن لبنان، ودعماً ضرورياً للشعب الفلسطيني في صراعه ضد الصهيونية.
لست أكيداً من إمكانية التحول المفاجئ وكأنه سحر ساحر، لكنني على قناعة من فعالية الالتفاف التدريجي على الصعيد التكتيكي القريب والأمد الاستراتيجي البعيد. كاهل الحوكمة متعب والشعب يائس. اقتناص الفرصة الذهبية لتحقيق النقلة النوعية والإصلاح أصبح من الضروريات. الشعوب دائماً تعرف أي فسحة تريد من الحياة. هل من لديه الرؤية والعزيمة للتجاوب من داخل الطبقة الحاكمة؟ كلّي أمل.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار