آخر الأخبار
الرئيسية » كلمة حرة » ثقافة اللامعنى (2)

ثقافة اللامعنى (2)

 

مالك صقور

بعد الحديث عن الرغيف والمثقف ، صار بإمكاني الحديث عن ثقافة اللامعنى .. فثورة المعلوماتية ، والانتصار المبهر للتقانات الإلكترونية العالية ، وبفضل الأقمار الصناعية الكثيرة ، وأجهزة الأتصال المتطورة جداً ، جعلت الكرة الأرضية ( قرية) كونية مصغرة تأتي إلى بيتك إنْ شئت ، وفي متناول يديك أنّى كنت . فبلمسة بسيطة أو بكبسة زر بوسعك أن تعرف ماذا يجري على سطح الكرة الأرضية ، وعلى أطرافها ،وحتى في الدهاليز السرية للذين يتحكمون بهذا الكوكب الحائر الذي اسمه الأرض . وأنت ياعزيزي القارئ وأنا ماعلينا إلاّ أنْ نبتهج جداً بهذه المنجزات الحضارية الراقية ،الرائعة ، الهائلة ، العظيمة والفظيعة في آن ، لأن ” العالم” بين أيدينا ، في حقل السمع ، وتحت مرمى البصر ، نستحضره بأسرع من ارتداد الطرف متى نشاء . ولا تقل لي ياعزيزي القارئ كما قال لي صديقي عنالثقافة .فكل هذا الذي ذكرناه ماذا يفيد المرء إذا كان (( مريض وجوعان وعريان وحفيان وطفران )) ..
بلى !!
وأنت ياعزيزي القارئ و أنا نعرف هذا ، ولكن لكي لا نظهر متخلفين في ( عيونهم ) ، علينا أن ننبهر ونعبّر عن دهشتنا وإعجابنا ونؤكدحماستنا لمنجزات هذه الحضارة الراقية العجائبية ، وعلينا أن نتلقف هذه التقانات كي لا نتهم بالأمية والتخلف . عدّد معي :
التلفاز ومحطاته الفضائية التي لا تعّد ولا تحصى ؛ الشبكة العنكبوتية و مشتقاتها الكثيرة والمتنوعة ووسائل الاتصال الاجتماعي العجائبية ، والجوال المحمول السحري منه والذكي جداً . كلها منجزات حضارية ضرورية حقا ، ومفيدة جدا إذا اتقنا استخدامها .. لأن فيها ما فيها ما يعمي القلب ، ويغلق العقل ، وعليك أن تختار. وأنا واثق عزيزي القارئ ، أنك قادر أن تختار ما يرضي عقلك وطموحك وميولك وذوقك ، وما تريده من برامج المنوعات الخفيفة والأخبار الثقيلة .. ولكن من يتحكم بالأطفال وباليافعين والأجيال الشابة ؟! وهنا بيت القصيد ومربط الفرس .
محطات التلفزة الفضائية التي لاحصر لها ولا قيد عليها إلاّ في الغرب تبث كل شيئ : برامج علمية ، وإخبارية ، ومنوعات .. نعم !ومسلسلات من كافة الأنواع ، لكن اغلبها هابطة .. وبالمقابل : ثمة محطا ت كثيرة إباحية شيطانية ، تبث مدى الدهر أفلاما ً رخيصة تعلّم الفجور ، وتثير الشهوات الغرائزية لمجتمعات مكبوتة .. وفي الوقت نفسه ، ثمة محطات كثيرة تبث الأحاديث الدينية ، الغارقة بالتعصب و الظلامية ، تثير النعرات الطائفية والمذهبية ، وتجعل المشاهد يعيش في العصور الوسطى . وفي الوقت نفسه ، ثمة محطات تعمل ليلا نهارا تبث الفن الهابط بكل أنواعه لإفساد الفن الأصيل وإفساد الذائقة الجمالية لدى الأجيال الشابة ، وتشويه الذوق الجمالي والفني وتخريبه ، في مجال الموسيقى والغناء والطرب .من غير أن أنسى سيل المسلسلات التي هدفها التسلية وقتل الوقت واللهو ، والإمتاع الفارغ .
لايمكن لأحد ما أن ينكر الحاجة الماسة للشبكة العنكبوتية والتي لا غنى عنها في هذه الأيام وهي وسيلة ذات حدين : حدٌ ضروري جداً ، ومفيد جداً ..هذا الحد يجعلك تتصل بأربعة أركان الأرض من دون إذن أحدولو كنت في أقاصي الأرض ، تتصل وتطمئن عن صحة من تحادثه إنْ كان ابنا يدرس في الخارج أو صديقا أو أو . والحدالآخر هو الانغماس في فخ ( اللهاية ) وهو الاستخدام العبثي للشبكة بكل مافيها من مغريات وإغراءات وغوايات ، وفهمكم كاف .
ومن المعروف ، أن العرب هم أكثر شعوب الأرض شهرةً بقتل الوقت ، لذا تجد الكثيرين الكثيرين من المدمنين على مشاهدة الفضائيات التي تبث السموم ، والمواظبة حتى الصباح على الفرجة سواء على البرامج السخيفة أو على الموبايل والتواصل الافتراضي والوهمي على صفحات الحاسوب ، قانعين أن هذا يغنيهم عن قراءة الكتب والمجلات ..الخ .
كل هذا يؤدي للحديث عن ” ثقافة اللامعنى” .. وثقافة اللامعنى – عنوان فصل من كتاب روجيه غارودي :(الهدامون )، ومع أن الكتاب قد صدر في تسعينيات القرن الماضي إلاّ أنه مازال يحتفظ بأهمية أفكاره حول الثقافة الفارغة . يستهل غارودي كلامه هكذا : ” تصاب الثقافة بالدمار إذا انقطعت فاعليتها في البنى الاجتماعية و تُسلم الجماهير ذات الروابط الواهية إلى جبروت التلاعب الذي تمارسه أجهزة الإعلام والتثقيف .
يتحدث غارودي عن ثقافة اللامعنى في المجتمع الفرنسي وفي مجتمعات الولايات المتحدة الأمريكية ، إلاّ أن حديثه ينسحب على أغلبية المجتمعات في العالم ، ولا سيما في العالم الثالث ، ومايجري في الوطن العربي خير برهان على ذلك ، فجبروت التلاعب الذي مارسته وتمارسه أجهزة الإعلام قد فعلت فعلها وحصدت ثمارها . فثمة من وقع في الفخ ، وثمة من بلع الطعم ، وثمة من أُحتل عقله ، وثمة من غُسل دماغه ، وهذا أدى إلى الكساح الفكري والمعرفي . وذلك نتيجة لتعميم ثقافة اللامعنى الذي تريده أمريكا، ويسميه هو طلائع الانحطاط . يقول : ” الانحطاط – أعني التأمرك- بانتظاركم . ومع التأمرك – يعني : التفرج والتسوق والتسوح يرافق ذلك حمى الاستهلاك الجاهز والموضب ، ومن الثقافة بصريا وماليا ، بدءاً “بماكدونالدز” وانتهاء ” بكوكاكولا” .
وختاماً أقول : ليس بالخبز وحده يحيا الانسان – كما يقول السيد المسيح عليه السلام . وأن الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية – كما قال الرئيس الراحل حافظ الأسد .
(موقع سيرياهوم نيوز-2)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

المجالس الاستشارية والمجالس التمثيلية: بين المشورة واتخاذ القرار

  حسان نديم حسن في ظل التطورات السريعة التي يشهدها العالم وتنامي أهمية المؤسسات التشاركية، تبرز المجالس الاستشارية والمجالس التمثيلية كأدوات حيوية للإدارة وتقديم الخدمات ...