عبد المنعم علي عيسى
ربما كان حدث انعقاد «قمة العشرين» هو الأهم عالمياً حتى من انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تحل دورتها السنوية شهر أيلول من كل عام، والتي تمثل منبراً لمداولة شؤون العالم التي تطرح نفسها على هذا الأخير، فالمجموعة التي صارت تعرف بـ«G20» منذ تأسيسها عام 1999 بات ناتج دولها يسجل رقماً مهماً يصل إلى نحو 90 بالمئة من الناتج العالمي، ثم إن عملها الأساس هو مناقشة السياسات المتعلقة بتعزيز الاستقرار المالي الدولي الذي من دونه ستصبح الأولى، أي الأمم المتحدة، محركاً بلا طاقة لازمة لدورانه، وبمعنى آخر فإن التوافق على قضايا العالم المالية الذي تحضّر له تلك المجموعة هو أمر من شأنه أن يضع الضوابط والهوامش والأطر الضامنة لبقاء مداولات «أيلول الأممية» تحت السيطرة، حيث توافق «الكبار» على دوران حركة رأس المال الكبرى في «G20» كثيراً ما يتوصل إلى حلول لأزمات يناقشها «المنبر»، وردهاته، انطلاقاً من أن الأخيرة كثيراً ما تكون «جوائز ترضية» للتوافقات الكبرى، وفي سياقات ذلك تصدر القرارات في مجلس الأمن أو في الجمعية العامة التي يكون إجماعها مرتبطاً إلى حد كبير بتلك التوافقات.
شكلت المناخات المحيطة بانعقاد «G20» في مدينة «بالي» بإندونيسيا يوم 15 من الشهر الجاري حالة استثنائية فرضت أهمية زائدة للحدث، فالأخيرة انعقدت في ظل انقسام عالمي غير مسبوق تجاه مسائل محورية سيكون لها تداعياتها الكبرى على الاستقرار العالمي وعلى توازناته القلقة التي قد تدفع نحو خيارات خطرة من الصعب التنبؤ بمآلاتها، والمؤكد هو أن الحرب الأوكرانية، على أهميتها، لم تكن هي الأهم من بين تلك الانقسامات التي تشمل محاور عدة مثل الصحة العالمية والانتقال نحو مصادر الطاقة الجديدة أو المستدامة، ثم التحولات الرقمية، وهي في مجملها سوف تحدد مسار الحضارة البشرية وانعطافاتها.
كانت التلاقيات التي جرت بين قطبي «العشرين» الصيني والأميركي قد أبرزت منحى يبدو أنه أشبه بتقاطع مصالح، وهو يهدف إلى التخفيف من مناخات التوتر العالمي، ومنع التصعيد الذي يضفي على المعمورة برمتها طقوساً تفرض، بشكل أو بآخر، طابعاً تشنجياً ذا أثر تراكمي، حيث لا بد من أن تؤدي تراكماته، حينما تبلغ مداها، إلى تحولات نوعية، يبدو أن الطرفين كل منهما يرى أن لا مصلحة له في حدوثها الآن ما اقتضى السعي إلى تأجيلها على أقل تقدير مما تعكسه التصريحات التي أطلقها كل من الرئيسين الصيني والأميركي في أعقاب لقائهما الذي سبق انعقاد القمة بيوم.
في ذلك اللقاء الذي يصح وصفه بأنه كان أقرب إلى محاولة مشتركة لرسم سقوف الحركة للطرفين، قال الرئيس الصيني: إن «بكين لا تسعى إلى تحدي الولايات المتحدة، أو إلى تغيير النظام الدولي القائم» في إشارة يفهم منها إلى أنها كانت رداً على وثيقة «إستراتيجية الأمن القومي» التي أعلنتها واشنطن الشهر الماضي، والتي ذكرت الصين على أنها «الدولة الوحيدة التي تسعى إلى تغيير النظام الدولي»، على حين جاء رد نظيره الأميركي بأن «لا حاجة لحرب باردة» وأن «واشنطن وبكين تتشاركان المسؤولية أمام العالم، وأنهما قادرتان على إدارة خلافاتهما، ومنع المنافسة من التحول إلى نزاع».
خرجت قمة «بالي» بثلاثة عناوين رئيسة هي: أمن الطاقة وأمن الغذاء وتخفيف التوتر السائد على امتداد المعمورة، وإذا ما كان الخروج بتوافق حول تلك العناوين قد جرى نتيجة لـ«تفاهم» أميركي صيني فإن حسابات الطرفين فيه تقوم على وجوب تأجيل «المواجهة»، فكلاهما يدرك أن الوجوب السابق هو مؤقت، ولكل منهما ضروراته التي استدعت هذا الأخير، فهو سيتيح لبكين المزيد من الوقت والترقب لمدى قدرة الغرب على الزج بثقله كاملاً وراء نظام فولوديمير زيلسينكي، وإذا ما طال أمد موجبات ذلك الفعل، فإن أثر هذا الأخير على الاقتصادات بدت متعبة، ثم على جبهات الغرب الداخلية التي تصدعت بدرجة غدت شروخها بادية للعيان، أما واشنطن فالتأجيل يمنحها فرصة الوقت لتعميق هجومها على قطاع التكنولوجيا الصيني، الأمر الذي يعني، في حال نجاحه، دخول «الجموح» مرحلة «المراوحة» ثم التباطؤ فالتراجع.
صورة «التوافق» التي خرجت بها قمة «بالي» تضيء فقط على نصف اللوحة العالمية، أما نصفها الآخر فتضيئه التصريحات التي أدلى بها أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش الذي حضر جزءاً من اجتماعات «بالي» قبيل أن يتوجه لمؤتمر «كوب 27» بشرم الشيخ، وبعدها قال بالحرف «من الواضح أن هناك انهياراً في الثقة بين الشمال والجنوب، وبين الاقتصادات المتقدمة وتلك الناشئة، هذا ليس وقت توجيه أصابع الاتهام لأحد، فلعبة اللوم هي وصفة للتدمير المتبادل المؤكد».
قد تكون «بالي»، جنباً إلى جنب النتائج التي أفضت إليها انتخابات الكونغرس شهر تشرين الثاني الجاري، نجحت في تليين الموقف الأميركي تجاه الصراع الأوكراني، مما ظهرت بوادره في مؤشرات «الاعتدال» التي يمكن لحظها وخصوصاً في طبيعة الردود التي خرجت من واشنطن رداً على سقوط صاروخين في أراضي بولندا «الناتووية»، ناهيك عن تصريحات رئيس هيئة الأركان الأميركية مارك ميلي الذي قال قبل أيام إن «النصر العسكري بالمعنى الحرفي للكلمة لن يتحقق بالوسائل العسكرية»، وهو بالتأكيد يقصد النصر العسكري للأوكران.
«بالي» فرصة لالتقاط الأنفاس، و«الاعتدال» الأميركي تجاه الصراع الأوكراني محاولة لطي ذلك الصراع، وكلاهما يندرج في سياق التهيؤ والتفرغ لصراع القرن الصيني الأميركي، الذي سيحدد مسار هذا الأخير فيما تبقى منه.
سيرياهوم نيوز1-الوطن