آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » ثلاثون أوسلو: عندما قرّر عرفات أن يسوق الدهاء

ثلاثون أوسلو: عندما قرّر عرفات أن يسوق الدهاء

| رند وهبة

صحيح أن الخيانة (أي خيانة، حتى الشخصية منها) مؤلمة بذاتها، ولكن لسبب ما تكون تفاصيلها مؤلمة أكثر؛ منبع الألم في هذه الحالة لا يقتصر على خسارة البوصلة والأرض والحقوق والزمن الحرج في معركة الوجود، فهو قبل كل شيء وأي شيء ألم التحسّر على مقاومين ومقاومات آمنوا بالكفاح المسلح وبذلوا دماءهم لنتحرّر نحن فيما كانت القيادة تخطط مسبقاً للإتجار بدمائهم.

خلال قراءة المراجع والأبحاث حول مسار أوسلو، مشهدٌ واحد لم يفارق المخيّلة وهو تبادل برقيات بين آخر مقاوم صامد في قلعة الشقيف وياسر عرفات: «يا أخ أبو عمار، ما ظل غيري، أنا الشبل بلال، ومعي قاذف صواريخ، وصاروخ واحد…»؛ «اضرب عليهم ونلتقي وإياك في الجنة»، ردّ عرفات. هل كان يعلم الشبل بلال أن «الختيار» كان يستجدي لسنوات نظرة من العدو؟
تنويه، تجنّباً لأي لبس، هذا النص لا ينتقد «أوسلو» ومن قادها للتوطئة لوهم آخر بأنّ هناك سلاماً آخر ممكناً في ظل قيادة مختلفة. الحقيقة أن ما سمّي بعملية السلام سعى لشيء واحد: إنتاج زعامة فلسطينية خاضعة للإرادة الصهيونية وقادرة على ضبط الشارع الفلسطيني المشتعل في الوقت ذاته. عملية السلام بالنسبة إلى العدو لم تكن عملية تفاوض مع طرف ما على حقوق وتسويات، بل كانت رحلة للبحث عن رأس لهذا الشعب يمكن التفاهم معه أو قطعه في حال تعذّر ذلك. وكانت ليلة توقيع إعلان المبادئ، المسمّى باتفاقية أوسلو، أشبه بليلة القبض على فاطمة، أمّا فاطمة فكانت الانتفاضة.

مزجٌ أول: من قال نعم في وجه من قالوا لا
منتصف الليل في العشرين من آب قبل ثلاثين عاماً، في بهو كلاسيكي لقصر ضيافة تابع للخارجية النرويجية، تسلّلت كاميرات الشرطة السرية النرويجية لتوثيق اللحظة التاريخية حيث وقّع الوفدان المفاوضان إعلان المبادئ المعروف باتفاقية أوسلو. لم يخف أحمد قريع عاطفته الجيّاشة وهو يصرّ على تقبيل نظيره الصهيوني، بينما حاول الفريق النرويجي إخفاء ضحكاته. بالمقابل، جلس شمعون بيريز في الزاوية إلى جانب زوجة وزير الخارجية النرويجي هولست غير مبالٍ بظهور اشمئزازه. ولاحقاً هرع الوفدان الصهيوني والنرويجي إلى قاعدة عسكرية أميركية في ظل توتر وترقب شديدين بانتظار الموافقة الأميركية من قبل وزير الخارجية ومساعده، وتنفّس النرويجيون والصهاينة الصعداء، ليتم بعدها بأسابيع، في 13 أيلول 1993، إعادة تمثيل المشهد على مرج البيت الأبيض.
منذ بدايات الاستعمار كانت هناك نخبة أقلوية فلسطينية مستعدّة للاندماج والتوافق مع المشروع الصهيوني في مواجهة الحركات المقاومة الشعبية. ولكن إن تحدّثنا عن المرحلة الحرجة في نهايات الحرب الباردة في ظل تصاعد الانتفاضة الأولى، فقد حاول الاستعمار البحث عن بدائل للجم المقاومة الشعبية الفلسطينية، من تلك عقد اتفاق سلام مع الأردن قبل إعلان فك الارتباط، أو مشروع روابط القرى، أو مشروع شامير بإجراء انتخابات لإفراز قيادات فلسطينية يمكن التفاوض والاتفاق معها، أو محاولات إفراز شخصيات بارزة (منها فيصل الحسيني، حنان عشراوي وحيدر عبد الشافي) من الداخل باعتبارها ممثلاً للشعب الفلسطيني والتفاوض معها، وهو ما تم في محاولة التفاوض مع وفد فلسطيني أردني مشترك في محادثات مدريد وواشنطن.

فشل البديل وراء البديل لفقدانه شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني وفرض التسويات عليه وبالتالي ضبطه، أمّا التجربة الأخيرة في واشنطن، فبدأت بقوة ولكن العدو الصهيوني اكتشف أنه يفاوض ياسر عرفات المنزوي في تونس عبر الفاكس، إذ كان الوفد يعود لأبي عمار لاتخاذ أي قرار، و«الختيار» بدوره كان يرفع السقوف لهم (أوصى عرفات الوفد بالتمسك بالقرار الأممي 242، وحثّ حنان عشراوي على أن تواجه رفض هذا القرار بطرح القرار 181 بدلاً منه!) لا تمسّكاً بأي مبدأ وبعض الحق، بل ليضع العصي في دواليب عملية السلام التي همّشته أكثر وأكثر وهدّدت زعامته.
كان العدو الصهيوني والأميركي منذ السبعينيات يضع كل الخطوط الحمر ضد التفاوض والاتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية على اعتبارها منظمة إرهابية، وكان هناك سبب معلن آخر يبدو أكثر ترجيحاً؛ بالنسبة إلى الطرفين كان موضوع حق العودة من المحظورات والتفاوض أو الاعتراف بأي جسم يمثّل الشتات الفلسطيني يُعدّ من المحرّمات. والسبب لعدم ترجيح الاعتبار الأوّل هو أن أبا عمار كان يسعى للتوصّل إلى اتفاق سلام مع العدو منذ بداية السبعينيات، وفي نهاية السبعينيات فاجأ الزعيم وفداً نرويجياً التقى بعرفات في لبنان لضمان عدم استهداف القوات النرويجية في اليونيفل في حال أمّنت النرويج النفط لكيان العدو بعد سقوط نظام الشاه في إيران، وذلك بناءً على طلب أميركي (رأس الوفد مساعد ونائب وزير الدفاع يوهان هولست وهو صديق مقرّب من القادة الصهاينة وسيلعب دوراً حاسماً في إخراج مراحل المفاوضات لاحقاً). وافق عرفات مقابل التزام النرويج بتأمين قناة اتصال خلفية سرية للتفاوض مع العدو الصهيوني وفشلت في ذلك لسنوات.

حتى بعد أن قفز أبو عمار برشاقة فوق خطاباته الشعبوية، للاعتراف بالقرار الأممي 242 بشكل ضمني عندما أعلن قيام دولة فلسطين من الجزائر عام 1988 عقب إعلان الأردن فك الارتباط مع الضفة المشتعلة، وحتى بعد خطابه المجلجل في الأمم المتحدة في العام ذاته وهو يحث المجتمع الدولي «لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي»، لم ينل عرفات الرضى والقبول لدى الأعداء. بل إن الأميركيين أبدوا استياءهم من أن الخطاب هذا لم يدن الإرهاب بما فيه الكفاية وأصروا على أن يدين الإرهاب بشكل واضح وقاطع باللغة الإنكليزية وبالنيابة عن الشعب الفلسطيني، فسارع «الختيار» إلى عقد مؤتمر صحافي لتنفيذ الأوامر وأخطأ بدايةً وأعلن الإرهاب ثم صحّحه الحضور فعاد وأدانه!

مزجٌ ثان: كيف تخطو على جثّة ابن أبيك؟
بعد إصرار وعناد طويليْن من قبل عرفات، استطاع الرجل أن يقنع الأعداء بأنه الرجل الوحيد القادر على تقديم التنازلات، بل إن لا أحد غيره أقدر على تقديمها وبالجملة. في ظل إحباط الوفد الصهيوني في واشنطن من تمسّك الوفد الفلسطيني بالقرار 242 وحق العودة وحدود الـ67 وتفكيك المستوطنات والقدس وغيرها، بدأ يوسي بيلين وشيمون بيريز بتقبّل فكرة التواصل عبر قناة سرّية خلفية مع منظمة التحرير بعد أن أمطرهما عرفات برسائل وإشارات عبر عدة وسطاء بأن لا منافس لبضاعته والتنزيلات المغرية التي يعرضها.

وهكذا بدأت المفاوضات في كانون الثاني 1993 بتنسيق نرويجي. تفاجأ وفد العدو من الجلسة الأولى بقبول الفلسطينيين بمقترح أريحا أولاً الذي رُفض سابقاً في واشنطن، خصوصاً أن بيريز كان قد عرض ضم أريحا أو جنين أو طولكرم لوفد واشنطن لتغيير موقفهم، الأمر الذي أثار الشكوك لديهم؛ هل كان قريع يتحدّث من عنده؟ أم أن عرفات لم يكن على اطّلاع على ما يتم عرضه في مفاوضات واشنطن؟ أم أن عرفات كان يدبّر بدهاء مكيدة عصية الفهم؟
تطلّب الأمر عدة أشهر ليتأكد الصهاينة من بساطة التفكير الاستراتيجي لدى الخصم، كل ما أراده عرفات هو الاعتراف به وبمنظمته من قبل الأميركيين والعدو، ولهذا كان مستعداً لبذل الغالي والنفيس.
لم يكن رابين مقتنعاً بالقناة السرّية ولا بالتفاوض مع المنظمة، ولكنه احتاج إلى تقييم حقيقي من خبير، فجاء بجويل سينغر، الذي كان محامياً للجيش، وعمل في صياغة اتفاقية كامب ديفيد، وكان أحذق وأشرس وأخبر شخص يمكن لرابين الوثوق به. وبعد أن أمطر سينغر الوفد الفلسطيني بوابل من مئات الأسئلة بعدوانية منذ اليوم الأول لانضمامه في مسار القناة السرّية، أصدر حكمه التالي: «إننا سنكون أغبياء إذا لم نعقد صفقة مع هؤلاء القوم حالاً!».
كان سينغر قد اقترح فكرة الاعتراف المتبادل، بحسب سينغر هذا كان المدخل الوحيد لإلزام المنظمة بوعودها بإيقاف الانتفاضة، و«وقف الإرهاب» ونزع سلاح المجموعات الفلسطينية الأخرى.

كان بيريز ورابين ضد طرح الفكرة على الأقل في تلك المرحلة، بيريز تحديداً رأى فيها نقطة للتفاوض لتحصيل المزيد من التنازلات. في الوقت الذي دخل فيه سينغر للعملية (الجلسة السابعة، حزيران، عُقدت استثنائياً في منزل الزوجين لارسن-جول) كان الوفدان قد توصلا إلى صيغة متوافق عليها لإعلان المبادئ تضمّنت تنازلات فلسطينية مهولة (كان إعلان المبادئ الأول قد أرجأ الحديث عن حق العودة، والاستيطان والحدود والأمن والتنازل عن السيادة في الضفة في مناطق المستوطنات والمناطق العسكرية والمواقع الدينية بالإضافة إلى القدس وغيرها من القضايا الشائكة إلى مفاوضات الحل النهائي، على عكس ما تشبّث به الوفد المفاوض في واشنطن). إلا أن سينغر اعتبرها غير كافية، لذا قام بطرح صيغة أخرى تم فيها التراجع عن أي تنازلات قدّمها العدو للوفد الفلسطيني خلال الأشهر الستة الأولى من التفاوض. وبحسب الصيغة الجديدة، تقتصر سلطة الحكم الذاتي على وظائف خمس، هي: الصحة، الضرائب، التعليم، السياحة والشؤون الاجتماعية. تُسلّم على مراحل. اتفق الوفدان على أن يتم عرض كل الملاحظات على الوثيقة الجديدة.
عاد الفلسطينيون بعد التشاور مع تونس بـ 26 تعديلاً في الجلسة العاشرة، تم ضمّها بشكل أو بآخر في النسخة الجديدة باستثناء خمس نقاط. حاول الفلسطينيون ردّ الصاع لوفد العدو وأصرّ عرفات على وفده أن يستبدل الفلسطينيين بمنظمة التحرير الفلسطينية كتعديل أساسي من بين التعديلات. طبعاً رفض العدو هذه التعديلات، وعدّ ما حصل دليلاً على أن الفلسطينيين شريك لا يمكن الوثوق به.

بعد جولة مكوكية من أوسلو لواشنطن فالقدس، قام وزير الخارجية هولست بزيارة تونس ومعه الزوجان لارسن-جول للقاء ياسر عرفات بهدف استطلاع موقفه من التعديلات الأخيرة، وتقييم عام للنقاط الحرجة. كما عمل هولست على تليين موقف عرفات من بعض النقاط العالقة مثل الطريق الواصل بين غزة وأريحا، وإفهامه بأن هذا خط أحمر لا يمكن القبول به ولذلك اقترح عليه فكرة الممر الآمن كبديل معقول. أهم من كل ذلك، أراد هولست أن يتأكد من قدرة عرفات تحصيل موافقة الفصائل الفلسطينية الأخرى على ما يتم الاتفاق عليه وأن يضمن بأنه لن يتراجع في وجه معارضة جارفة. هنا دافع عرفات عن نفسه بأنه لطالما كان قادراً على التعامل مع المجموعات الفلسطينية المختلفة وأنه لا داعيَ للشك في قدرته بذلك مجدّداً في حال التوصل إلى اتفاق.
قام الزوجان لارسن-جول بالسفر بعدها فوراً إلى القدس ونقل تفاصيل اللقاء مع عرفات بالتفصيل مع كل الفريق الصهيوني، وذلك بالإضافة إلى محضر اجتماع بقلم هولست من 11 صفحة مفصّل ووافٍ موجّه لبيريز. قام العدو بإعادة تحليل كل كلمة مذكورة وأنهك النرويجيين للحصول على تقييم نفسي دقيق لياسر عرفات. لم يقدّم النرويجيون المعلومات والتقديرات فقط، بل قدّموا الاقتراحات والحلول أيضاً. طلب بيريز من الثلاثي العودة إلى تونس لقطع الشك باليقين. وقتها، حثّ هولست عرفات على انتهاز الفرصة التاريخية والانضمام إلى الإجماع، وأن لا يرتكب خطأ فادحاً ويخسر المكاسب واحتمالية الاستقلال مستقبلاً لأجل بعض الشكليات – يقصد تعديلات سينغر الجارفة طبعاً. في رسالة هولست الثانية إلى بيريز، أبدى الأوّل تفاؤله بإنجاز الاتفاق في الجولة التالية التي كانت ستُعقد بعد 3 أيام.

الجولة الحادية عشرة تضمّنت المزيد من التنازلات الفلسطينية، بالفعل تم إسقاط فكرة الطريق الواصل بين غزة وأريحا لصالح فكرة الممر الآمن، وشُطبت القدس الشرقية من الاتفاق المرحلي. بالمقابل، طالب الفلسطينيون بقوة شرطة من 10 آلاف عنصر لغزة وأريحا وسيطرة الفلسطينيين على المعابر الحدودية من بين مطالب أخرى. من جهتهما، أضاف سينغر وسافير موضوعين جديدين للاتفاق يتعلّقان بصلاحيات المجلس الفلسطيني وأمن العدو. تسبّبت كل هذه التعديلات برفع الصوت والشتائم المتبادلة بين الطرفين والتهديد بالانسحاب وإلغاء العملية بأسرها.
صعّد العدو وهو يحمل مسبقاً المهدّئات اللازمة لتليين الطرف الفلسطيني، إذ عمل سينغر وسافير مسبقاً لتحضير مسوّدة مقترح للاعتراف المتبادل. كان هذا طعماً لإعادة الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات ولكنه كان بحد ذاته طعماً متفجّراً. لم يقاوم الوفد وعرفات إغراء الاعتراف المتبادل، خصوصاً أن ما يُعرض هو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل رسمي للشعب الفلسطيني، وليس الاعتراف بفلسطين أو شعبها أو أي حقوق وطنية. تضمّنت المسوّدة شروطاً سبعة تُقبل أو تُرفض رزمة واحدة. ومن أهم الشروط: الاعتراف بحق «إسرائيل» بالوجود والسلام، إدانة الإرهاب، وقف الانتفاضة، وإلغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تدعو إلى تدمير «إسرائيل» أو تتعارض مع عملية السلام. فوق كل ذلك، كان هناك تفصيل ملغوم آخر، هو أن الاعتراف المتبادل مرتبط بالتوصل إلى إعلان المبادئ. لخّص سافير النقاط الخلافية بـ16 نقطة، ثمانٍ منها لن يقبل العدو بالمساس بها وهي تتعلق بالأمن والحدود وحماية المستوطنين وحرية حركة جيش العدو في الأراضي الفلسطينية كافة. أمّا الثماني الأخرى، فهي نقاط تفصيلية حول اتفاق غزة أريحا، وصلاحيات المجلس الوطني الفلسطيني وما إلى ذلك، وفي حال وافق عرفات على النقاط الثماني الأولى، قال سافير، إنه سيحاول إقناع القيادة الصهيونية لإبداء شيء من المرونة في ما يتعلّق بالنقاط الثماني الثانية.

كان إسحق رابين رافضاً لفكرة التفاوض مع منظمة التحرير، لكن سلسلة التنازلات الفلسطينية المتتالية أبهرته، وهكذا دفع الوفد الصهيوني لترتيب الجولة الثانية عشرة والأخيرة في الثالث عشر من آب 1993، ولم يكن إغراء الاعتراف المتبادل هيناً على القيادة في تونس، وهكذا تم تقديم تنازلات كبرى مجدداً، قذفت خلافات اتفاقية غزة أريحا باتجاه المرحلة القادمة من المفاوضات باستثناءات قليلة، بينما وافق العدو على الاعتراف بالحقوق السياسية للفلسطينيين وإسقاط الحقوق الوطنية من النص. أمّا في ما يخص الاعتراف المتبادل فقد وافق الوفد الفلسطيني على الشروط السبعة كاملة، وبالمقابل طالب بأن يقوم العدو بإدانة الإرهاب والتزام شروط مماثلة من طرفه – طبعاً كان هذا نوعاً من الهرطقة بالنسبة إلى العدو!

بعدها بأيام كان بيريز في زيارة للسويد وكان صبره قد نفد، إذ وضع مستقبله السياسي على المحك بدعمه للقناة السرية، وعليه حصد الثمار بسرعة قبل أن تعصف رياح التغيير الإقليمية بمحاصيله، وهكذا أحضر بيريز معه الوفد الصهيوني المفاوض، واستدعى الفريق النرويجي وعلى رأسه الوزير هولست، إذ كان الأخير مسروراً لأن يعمل مراسلاً لدى بيريز (يتذكر بيريز أن هولست لم يجد أياً من الطلبات الصهيونية أصغر من أن تستحوذ على اهتمامه الكامل). كانت الليلة ما بين 17-18 آب هي ليلة مفاوضات الهاتف. بدوره، نصح لارسن وزير الخارجية النرويجي قائلاً بأن الفلسطينيين يحبون الدراما ولذلك اقترح عليه إخبار الطرف الفلسطيني في تونس بأن بيريز جالس إلى جانبه ومستعد للحديث حول النقاط النهائية. الطرف الفلسطيني، بدوره، وُضع في مأزق مفاجئ بلا أي استعداد، لكن حتى في هذه لم يكن بيد الفلسطينيين كلمة. وضع الفريق الفلسطيني تحت رحمة تنمّر وزير الخارجية النرويجي لساعات ثمانٍ سويت فيها كل المخاوف الصهيونية وتمّت مراعاة المحاذير كلها. كل ذلك تم بينما كان بيريز نائماً ولا يستيقظ إلا عند الضرورة لقرارات سريعة. كان بيريز واثقاً من النتائج فهو من جهة كان يمتلك فريقاً متخصّصاً متمكناً تقنياً وسياسياً وأخذ الوقت اللازم لهذه الجلسة المصيرية، ومن جهة أخرى فقد جاء بيريز وهو يخبّئ في جيبه أسوأ مخاوف عرفات، والتي كانت للمفارقة أسوأ مخاوف بيريز نفسه. في تلك الأثناء، للأسف، كانت مفاوضات أخرى تجري في المنطقة بإدارة أميركية مع سوريا، وكان الأميركيون حينها متفائلين جداً بقرب عقد اتفاقية بينها وبين العدو؛ كان هذا يعني بالنسبة إلى بيريز أن مشروعه التفاوضي هذا سيسقط ومعه سيتعرّض مستقبله السياسي للخطر، ولكن بدل أن يضعف هذا الخوف بيريز استغلّه لإخضاع عرفات الذي كان يجزع من احتمالية أن تسبقه سوريا لعقد اتفاقية سلام. وهكذا في أحرج لحظات التعنت الفلسطيني هذه، تم إيقاظ بيريز ليأمر باستخدام سلاحه الفتاك «قولوا لهم بأننا سنذهب مع سوريا» وعاد للنوم مطمئناً للنتيجة.

مزجٌ ثالث: ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام
هالة كاذبة نسجها النرويجيون حول قناتهم السرية بأنها مبنية على الثقة وبناء العلاقات الإنسانية وما إلى ذلك، والحقيقة أن التوصيف الدقيق كان على لسان أحد أعضاء وفد العدو، بأن مدير العملية -لارسن- يمتلك موهبة في مجال علم النفس، وموهبته هذه وظّفها للتلاعب بالفريق الفلسطيني واستيعاب نوبات غضبه. أوحى النرويجيون بأنهم مستضيفون محايدون من خلال حرص مفرط في المساواة بين الوفدين في الشكليات كالمنامة والمأكل، ليعتقد الفلسطينيون بأنهم بين أصدقاء. كما أن لارسن كان قد ثبّت قواعد ثلاثاً لما سمّاه «روحية أوسلو» وهي عدم الخوض في سرد مظالم الماضي، السرية التامة والتراجع عن كل المطالب التي تم التمسك بها في واشنطن (طبعاً لم تُطبق هذه الروحية إلا على الجانب الفلسطيني). والحقيقة أن النموذج النرويجي مجرد تطوير بسيط لنمط كيسنجر في كامب ديفيد القائم على رمي المسائل الشائكة إلى الأمام.
أديرت القناة السرية من قبل فريق ضيق، «عصابة» من سياسيي حزب العمل النرويجي الحاكم المقرّب من نظيره الصهيوني تاريخياً. كما يظهر وثائقي «ثمن أوسلو» (2001)، ضجّت الصحافة النرويجية بأخبار اختفاء أوراق من أرشيف الخارجية النرويجية وهي متعلقة تحديداً بدور هولست في قناة التفاوض السرية، خصوصاً أن الرجل اشتهر بدقته في التوثيق وكتابة اليوميات وإرسال المذكّرات وصياغة المقرّرات. وذلك بعد أن تفاجأت الباحثة النرويجية هيلدا هنريكسن من أن أرشيف الفترة الحرجة من عمر المفاوضات السرية هذه مختفٍ بشكل كامل، وليس هذا فقط بل إن زوجة الوزير أكّدت لها أن مذكّرات الرجل من هذه الفترة مفقودة. حاول البعض في الأرشيف إقناع الباحثة بأنه على الأغلب لا توجد أوراق لتلك الفترة نظراً إلى كون القناة سرية، المشكلة بالنسبة إلى الباحثة أن الوثائق والمذكّرات لدى الطرف الصهيوني تقتبس من هذه الأوراق التي يدّعي البعض أنها لم توجد أصلاً. من جهته، سلّم إيجيلاند 8 أوراق فقط، بينما رفض كل من لارسن-جول تسليم أي أوراق بحوزتهما واتضح لاحقاً، بفضل تسريب صهيوني، أن الزوجين قد تلقيا 100 ألف دولار لكل منهما من قبل «مركز بيريز للسلام» الذي تموّله الخارجية النرويجية. بالنسبة إلى الزوجة يمكن القول إن الفضائح توقّفت هنا، فنظراً إلى كونها لا تزال تعمل في الخارجية النرويجية كسفيرة لبلادها في تل أبيب أُجبرت على إعادة المبلغ، أمّا الزوج العتيد الذي كان يعمل حينها في الأمم المتحدة فقد رفض إعادة المبلغ وبكل وقار صرّح بأنه استحقّه حتى آخر قرش منه.

مزجٌ رابع: الباقون والعائدون
استمر الطرف الفلسطيني باستجداء العون النرويجي بشكل بائس خلال المفاوضات اللاحقة بالرغم من كل التآمر الذي أبداه النرويجيون. في المقابل، وجد الطرف الصهيوني نفسه متمكّناً من الانفراد بالطرف الفلسطيني ورفض مراراً تدخّل النرويجيين بالرغم من خدماتهم الجليلة. لم يسعف الدهاء عرفات لتمييز الصديق من العدو وكانت النتيجة أن الفلسطينيين كانوا يفاوضون أنفسهم، لدرجة أن العدو كان يلجأ إلى عرفات للقفز على «تعنّت» وفده المفاوض كلما تطلب الأمر، وحقيقة الأمر أن السلام الحقيقي كان قد عُقد بين الخصمين اللدودين داخل الحكومة الصهيونية: رابين وبيريز!
وفّر «الختيار» دهاءه لخصوم الداخل، بنظره كان هؤلاء الخطر الحقيقي والمحدق، من رافضين لعملية السلام داخل «فتح» والمنظمة أو بين الجماهير، أو لكبح الشعبية المتصاعدة للتنظيمات المقاومة، سواء أكانت اليسارية أم الإسلامية. واستعان بالنرويجيين مجدداً للخروج من حرج العودة للتفاوض بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي أمام الشارع الفلسطيني الغاضب، بتشكيل لجنة مراقبة أممية برئاسة النرويج في الخليل منزوعة الصلاحيات ومؤقتة ويخضع التجديد لها لموافقة العدو، كل ما أنجزته هو حفظ ماء وجه القائد وهو يعود ذليلاً للتفاوض لأجل التفاوض.
في المحصّلة، حصل الفلسطينيون على حكم ذاتي منزوع السيادة في كل من غزة وأقل من 3% من أراضي الضفة الغربية تركّزت في المدن حيث الكثافة السكانية العالية، ولم تكن هذه ثمار إنجازات دهاء المفاوضين، بل لأن الانتفاضة كانت متركزة في هذه المناطق وكان من الصعب على العدو السيطرة عليها، حتى إن الهلع الذي تسبّبت به المقاومة في غزة لدى الاحتلال دفع رابين للقول بأنه يريد لو أنها تغرق في البحر. ولذلك سعى للتخلّص من هذا العبء الأمني إلى تشكيل إدارة فلسطينية ذاتية خاضعة له بشكل كامل، تجبي الضرائب لتدفع الرواتب للشرطة التي عليها قمع مقاومة شعبها ضد الاحتلال.

الحقيقة أنّ هذه المهمّة كانت شديدة التعقيد والصعوبة، خصوصاً أن أبا عمار كان ينشئ هذه الشرطة واضعاً أمامه شبكة شديدة الدقة من الأهداف والمحاذير، منها إذابة الانتفاضة باستيعاب أكبر عدد من المقاومين داخل الشرطة (بالإضافة إلى وظائف السلطة والمنظمات)، وكان من الضروري أن لا يظهر للجماهير منذ البداية أن وظيفة هذه الشرطة هي قمع واعتقال المقاومين الآخرين وحماية أمن العدو. وكان من الضروري أيضاً أن لا تتحوّل الشرطة إلى قوة لها قيادة تنافسه على الزعامة، الأمر الذي دفعه إلى إنشاء عدة قوى أمنية متنافسة يهدّد بعضها بعضاً ويمنع انفراد أيّ منها بقوة ضاربة تهدّد زعامته. كما أنه كان متورّعاً عن أن تكون القوى الأمنية الفلسطينية الناشئة معتمدة بشكل أساسي على فلسطينيي الضفة وغزة وهو لا يضمن ولاءاتهم، لذلك أصرّ على إعادة آلاف الفلسطينيين (100 ألف وفق بعض المصادر) من الشتات ليضمن توازناً يحفظ له زعامته بين العائدين والباقين. ولكن حتى مع العائدين عمل عرفات مراراً على توظيف تكتيكه المفضّل بالمزاودة وثم التخوين لإقصاء أي عائد قد يتحوّل إلى قائد. كان «الختيار» قلقاً أيضاً من تسليم المناصب الحساسة لأي قيادي وطني بين الباقين في الداخل، وهكذا اصطفى رجالاً مشبوهين كجبريل الرجوب وحسين الشيخ ومحمد دحلان، ما أنهى مسيرة «الختيار» النضالية بوهج البولونيوم لينير دربه إلى الجنة حيث يفترض به لقاء الشبل بلال – ترى كيف استقبله الأخير؟

 

 

سيرياهوم نيوز3 – الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ليلة وقف النار… ليلة القدر

    نبيه البرجي   ايلون ماسك، الرجل الذي قد نراه قريباً يختال على سطح المريخ، هدد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بـاحراق شاربيه من الفضاء. ...