|محمد نور الدين
لم تكن التحوّلات الأخيرة في السياسة الخارجية التركية، بلا أثمان، بل إن أنقرة لم تتوانَ عن لحْس كلّ ما كانت ترفعه من شعارات رنّانة، مقابل تطبيع علاقاتها مع أطراف إقليمية عديدة. وبعدما تخلّت عن اتّهاماتها القاسية للإمارات بالانخراط في انقلاب 2016، وطوت صفحة مطالبها المتّصلة بالقضية الفلسطينية، جاء الدور على السعودية، لتُسامحها بدم جمال خاشقجي، وتطوي ملفّ قضية صدّعت رؤوس العالم وهي تتحدّث عنها
بدأت تظهر الأثمان التي كانت تركيا مستعدّة لدفعها، مقابل تحسين علاقاتها مع دولٍ، أخرجتها للتوّ من خانة الأعداء والخصوم، ليُثبت ما فعلته مع العديد من الأطراف الإقليمية، مثل إسرائيل والسعودية وقبْلهما الإمارات، تقدُّم المصالح السياسية والاقتصادية، وحتى الشخصية، على منظومات الِقيَم الأخلاقية في العلاقات الدولية. ومنذ حوالى السنة، مع وصول جو بايدن إلى سدّة الرئاسة الأميركية، ازداد التوجّس لدى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، جرّاء توعّد بايدن بالإطاحة به، ومن هنا فقدْ بدأ بعملية التغيير انطلاقاً من مصر، ومروراً بالإمارات. إلّا أنه حتى الآن، ليست ثمّة نتائج ملموسة للمحادثات مع مصر، ولاسيّما أن شروط الأخيرة لا تزال متشدّدة بشأن ضرورة اعتراف إردوغان بأخطائه، والاعتذار، والوقف الكامل لدعمه «الإخوان المسلمين» المصريين. أمّا الخطوة الثانية في تحوّلات السياسة الخارجية التركية، فقد تمثّلت في المصالحة مع الإمارات؛ إذ غضّ إردوغان النظر عن اتّهاماته للدولة الخليجية ومسؤوليها بأنّهم وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، في 15 تموز 2016، في مقابل تعهُّد الإمارات باستثمار ما يُقارب عشرة مليارات دولار في الاقتصاد التركي، بهدف إنعاشه ولجم التراجع المخيف في سعر صرف العملة المحلّية أمام الدولار الأميركي.
وأعقبت ذلك، زيارةٌ لإردوغان إلى الإمارات، في شهر شباط الماضي، لتليها في التاسع من آذار، زيارة للرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، إلى تركيا، حيث استُقبل في القصر الرئاسي بحفاوة مشهودة، في ما مثّل المحطّة الثالثة في تلك التحوّلات. وبهذا، بدا واضحاً أن الربط التركي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بمجموعة من الشروط، لم يعُد قائماً؛ حيث أضحى مطلبا رفع الحصار عن قطاع غزة والتراجع عن بناء المستوطنات، وحتى إدانة عمليات قتل الفلسطينيين أو هدم بيوتهم وطردهم منها كما في منطقة النقب مثلاً، مجرّد «ذكريات» من مرحلة استمرّت من واقعة دافوس وانتهت الآن. وكم كان طيّ هذه الملفات مصدر ارتباك وحرج لوسائل إعلام «حزب العدالة والتنمية» وكتّابها، وعلى رأسهم كبير الكتّاب في صحيفة «يني شفق»، ورئيس التحرير السابق لها، إبراهيم قره غول، ومنسّق مركز «سيتا» للدراسات، برهان الدين دوران، المقرّب من إردوغان. وممّا يؤكّد «فداحة» التحوّل المذكور، عبارات الإدانة القاسية التي أطلقها إردوغان ضدّ عمليات المقاومة الفلسطينية الأخيرة، بل ووصفه إيّاها، في برقية تعزية إلى هرتزوغ، بـ«الإرهابية والشنيعة»، وتهنئته نظيره الإسرائيلي بعيد الفصح اليهودي، ليهنّئه الأخير بحلول شهر رمضان.
مسار التحوّلات التركية تلك، وصل في الأيام القليلة الماضية إلى السعودية، حيث كان العنوان الأبرز لمسيرة التطبيع، تخلّي أنقرة عن الاستمرار في محاكمة قتَلة الصحافي جمال الخاشقجي. إذ أمرت النيابة العامّة في إسطنبول بأن يُنقل ملفّ القضية بكامله إلى الرياض، لتتمّ المحاكمة هناك. ولكن القضاء طلب مسبقاً رأي وزارة العدل في ذلك، ولم يخيّب الوزير الجديد، بكر بوزداغ، ظنّاً، بتأكيده أن الوزارة ستُبدي رأياً إيجابياً في الملفّ، خصوصاً أن وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، كان قد أعلن عن «خطوات مهمّة نحو التطبيع» مع السعودية. ولم يمرّ هذا التطوّر مرور الكرام في الداخل التركي، إذ اعتبر النائب عن «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، أوتكو تشاكير أوزير، أن «الحكومة التركية تخون ذكرى خاشقجي من أجل استعادة علاقاتها السياسية مع السعودية»، مضيفاً أن «تسليم الملفّ هو تواطؤ في الجريمة، هذا انتهاك خطير لحقوق الإنسان، وهو قرار سيضرّ، ليس بتركيا فقط، بل بكلّ العالم». من جهته، رأى كبير مستشاري رئيس «حزب الشعب الجمهوري»، تونجاي أوزكان، أن «نقل الملفّ من السيادة التركية للسيادة السعودية، هو أسوأ شرّ على تركيا التي يجب ألّا تقع في مثل هذا الوضع».
كذلك، شكّلت القضية العنوان الرئيس لصحيفة «قرار» (الملفّ يُحال إلى المرتكب)، التي أشارت في افتتاحيتها إلى أن «أنقرة أرادت، فور ارتكاب الجريمة، محاسبة الفاعلين على أراضيها. لكن رغم ذلك، عادت اليوم لتسمح بمحاكمة الفاعلين في الرياض»، مضيفة أن «كلّ المؤشرات تفيد بأن ملفّ جريمة خاشقجي سيُغلَق نهائياً في أنقرة». وفي الصحيفة نفسها، لفت عثمان سيرت إلى أن تركيا «عملت، في البداية، كلّ ما في وسعها لمنع التغطية على الجريمة، وكانت سبباً للتشهير بالسعودية في كلّ أنحاء العالم، وفي تدويل القضية»، معتبراً أن «أنقرة اكتسبت تفوّقاً أخلاقياً في الغرب والشرق»، مستدركاً بأنه «بمرور الوقت، واضطرار حكومة إردوغان للقيام بمنعطفات صعبة في التطبيع مع عدد من الدول، وُضعت قضية خاشقجي في مكان آخر. كما فقدت إسطنبول، بمقتل خاشقجي، مكانتها كملاذ للمعارضات». ورأى سيرت أن «طلب المدعي العام نقل المحاكمة إلى الرياض لا يوجد له تفسير قانوني، ويمكن تسمية هذه الخطّة بالسياسية والجغرافيا السياسية والمصالح الاقتصادية، وليس بالعدالة والقانون». كما اعتبر الكاتب أن تغيير وزير العدل، قبل أيام من طلب نقل الملفّ، وتعيين بكر بوزداغ مكانه، يبدو أن له علاقة مباشرة بالموافقة على الطلب، وقال متهكّماً إن بوزداغ «يستحقّ مقعده». وذكّر سيرت، وزير العدل، بأن «الدولة التي ارتُكبت جريمة على أرضها، لها الحق في محاكمة القتَلة على أراضيها وهو حقّ سيادي»، مؤكّداً أن «نقل الملفّ إلى الرياض، هو تسليم هذه السيادة إلى دولة أخرى»، منبّهاً إلى أن ذلك «سيضرّ بثقل تركيا على المديَين القصير والطويل».
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار