يوسف شرقاوي
روائي وكاتب ورسام ومترجم نقل لنا شكسبير إلى العربية. في الذكرى الــ 28 لرحيله، ماذا تعرفون عن جبرا إبراهيم جبرا؟
تنطوي محاولة اكتشاف والبحث عن جبرا إبراهيم جبرا في ذكرى رحيله الــ 28، أو التفتيش والحفر في عوالمه المتعدّدة، على شيءٍ كبير من المجازفة والخطورة، بل واللعب في النار.
أولاً، لأنّ بيبلوغرافيا الأطروحات والدراسات التي كُتبَت عنه بضعف حجم دليل التلفون لأي عاصمة كبرى، وهذه الاستعارة مأخوذة من كلام يان كوت عن شكسبير في كتابه “شكسبير معاصرنا”، الذي ترجمه جبرا.
ثانياً، لأنّ هذه الأطروحات والدراسات لا تتناول الكلَّ من جبرا وعوالمه، بل الجزء اليسير، أو على الأقل تقرؤه قراءةً واحدة من بين عشرات القراءات المُمكنة سواء لأعماله الروائية والشعرية ودراساته النقدية، أو لمسيرته الفكرية والإبداعية كونها شاهداً وفاعلاً ومحرّكاً في حركة قرن كامل.
من جملة هذه القراءات أنّ جبرا مرّةً يُقرأ من “خلف الخزان” جنباً إلى جنب مع غسان كنفاني وإميل حبيبي كآباء للرواية الفلسطينية الحديثة وباحثين عن الهوية الوطنية، كما يُقال إنه مؤسس تيار الأدب الذاتي الفلسطيني، وهذه القراءة واسعة وفيها الكثير من الدراسات، تربط الذاتي بالإبداعي. كما يُقرَأ على الطرف الآخر إما ناقداً، أو شاعراً حداثياً وسياسياً، أو رساماً، أو قاصّاً، أو عن طريق عوالمه الروائية وزمانها ومكانها وشخصياتها، ويُقرأ أيضاً من رؤيته للحداثة والتراث والأسطورة والموسيقى والرمز وغيرها.
يمكن القول إذن إنّ اكتشاف جبرا يحتاج اكتشاف أكثر من 200 دراسة في الأرشيف، هي ما أمكن العثور عليه، ولا بد أنّ غيرها الكثير، كما أنّ كتباً كاملة أُفرِدَت عنه، منها كتاب فيصل دراج “جبرا، وجوه المثقف الرومانسي”، وكتاب إبراهيم خليل “جبرا، الأديب الناقد”، وكتاب “القلق وتمجيد الحياة، مختارات تكريم جبرا” لعدة مؤلفين، وكتاب ماجد السامرائي “الاكتشاف والدهشة: حوار في دوافع الإبداع مع جبرا إبراهيم جبرا” الذي جمع فيه حواراته معه بين 1972 و 1992، في قضايا إبداعية ونقدية.
قراءات عبد الرحمن منيف وفيصل درّاج
يقول عبد الرحمن منيف في تقديمه لـــ “شارع الأميرات” إنّ الإطلال على عالم جبرا الفني والمتعدد، في مراحله المختلفة وأماكنه العديدة، يتطلّب جهداً مشتركاً من الذين عرفوه ورافقوه، وأيضاً من الذين يدرسون تاريخ المرحلة والمنطقة، خاصة في جانبه الإبداعي، “لأنّ تدوين هذا التاريخ بمقدار ما يلقي أضواء على جبرا المبدع، فإنه يلقي أضواء هامة على المخاضات الكبرى وترسيمات تلك المرحلة في مجالات إبداعية هامة، تحديداً في الشعر والرواية والنقد التشكيلي، لأنّ جبرا يُعتبر أحد المساهمين الكبار في إعطاء هذه الحقول الإبداعية ملامح ومسارات معينة”.
كذلك، فإنّ فيصل دراج يقول في جريدة الحياة اللندنية: “لا يُقرأ جبرا، الذي كان يهجس في سرّه بـ «الإنسان الكامل»، روائياً فحسب، أو شاعراً، ناقداً، أو رساماً مترجماً، بل يقرأ في العلاقات المتبادلة بين ممارساته الأدبية – الفنية المتنوعة، التي عبّرت عن «فائض الموهبة»، أو عن نزوعه إلى «مثال ما»، تتكامل فيه صورة المسيح وبيئة القدس وأصداء الصلوات وأنوار الكنائس. فمن الخفة قراءة رواياته بمنأى عن «الشعر»، ومن العبث إغفال الموسيقى التي أدرجها في بنية «السفينة»، والشعر الذي بثه في رواية «البحث عن وليد مسعود». إعاقتان استقرتا في فكر جبرا وأحاسيسه: لجوء الفلسطيني إلى المنفى، الذي رمى عليه بالتهديد والمهانة والنقص، وأعلن عنه بصوت يقترب من الصراخ في نهاية روايته «صيادون في شارع ضيق»، وإيمانيته المفردة التي كانت تجذبه إلى «نور مشتهى» وتصده عن السواد وأحادية الألوان”.
على هذا النحو، فإنّ “بدايات” البحث والاكتشاف تكون “من حرف الياء”، كما عنون جبرا مرّة مجموعته القصصية.
جبرا يستعيد جبرا
كتب جبرا في كتابين من كتبه أجزاءً من سيرته الذاتية، في “البئر الأولى” يتناول طفولته التي يمكن اعتبارها المرحلة الفلسطينية من حياته: مِن أبعد ما تسعفه الذاكرة من طفولته، إلى أن انتهى من دراسته في إنكلترا وعاد إلى القدس مليئاً بالأفكار ومحموماً بها، وممزقاً بين ضروب متناقضة من الوعي، في مطلع سنته الــ 24.
أحسّ جبرا – كما يقول في مقدمته – أنّ سنوات دراسته في أكستر وكمبردج (وبعض الوقت في أكسفورد) تحتاج وحدها إلى مجلد خاص، لذا اكتفى بالكتابة عن السنين الــ 12 الأولى من حياته، منتهياً بانتقاله مع والديه من بيت لحم إلى القدس عام 1932. إنه لا يكتب تاريخاً لتلك الفترة (العشرينيات وأوائل الثلاثينيات) ولا يكتب تاريخاً لأسرته، ولا تحليلاً اجتماعياً لبلدة فلسطينية كانت يومئذ صغيرة، بل ما يكتبه “شخصي بحت، وطفولي بحت”.
إنّ مقترب جبرا يتركز على الذات إذ يتزايد انتباهها، ويتصاعد إدراكها، ويعمق حسّها، ولا تنتهي بالضرورة حيرتها. كما أنّ الذات والمحيط بالنسبة إليه على طرفي نقيض. تتلخّص قصة مراهقته وما تلاها من تنامي المعرفة والإدراك في هذا الصراع: الذات ترفض، بضربٍ من الجنون، أن تجد انعاكسها في المحيط، وأن تخلص من فعله المدمّر، إلى أن يأتي اليوم الذي تريد أن تتحكّم به، وتغيّره.
إنّ الطفل، بوصفه والداً للرجل، الذي يكتب عنه جبرا متفقاً مع وورد زووث، حاضر في هذا الكتاب من أوله إلى آخره، حاضرٌ طفلاً أولاً، ووالداً للرجل ثانياً.
أما الكتاب الآخر “شارع الأميرات” فقد كرّسه جبرا للفترة الأولى من إقامته في بغداد، بعد نكبة فلسطين. يقتصر شارع الأميرات على سنة أو سنتين من حياته الجديدة، مع ارتدادات إلى حياته في فلسطين ولقطات من حياة الدراسة في إنكلترا، ويمكن اعتبار “شارع الأميرات” سيرة ذاتية لبعض المرحلة العراقية، البغدادية، في فترة الخمسينيات.
يقول جبرا في تقديمه لــ “شارع الأميرات” إنّ كتباً وروايات أخرى يمكن اعتبارها إكمالاً لمشروع السيرة الذاتية هذه، منها رواية “يوميات سراب عفّان” وكتابا “تأملات في بنيان مرمري” و”معايشة النمرة وأوراق أخرى”، والحوارات في “الاكتشاف والدهشة” مع ماجد السامرائي.
هذه كلّها مجتمعة، لا سيما “البئر الأولى” و”شارع الأميرات”، تشكّل مفتاحاً لاستعادة الطفل والمراهق واللاجئ المنفيّ والدارس والعارف والمدرّس والعاشق والباحث والفنان والمترجم والناقد.
التيه وأزمة المثقف العربي والهوية
في حواراته مع السامرائي يشير جبرا إلى أنّ روايته “السفينة” كانت سيرة للتيه الفلسطيني والإبحار إلى شواطئ مجهولة، كما كانت “البحث عن وليد مسعود” مدوّنة بانورامية لهذا التيه، بين لجج وأفكار وأحلام وهزائم، على مدار نصف قرن، خلاف “السفينة” التي تجري أحداثها خلال أسبوع واحد، كما يلاحظ خليل صويلح.
إنّ بحث جواد حسني عن المناضل الفلسطيني والمثقف وليد مسعود، الذي اختفى في ظروف غامضة، يعكس التيه والبحث في آنٍ معاً.
أما “عالم بلا خرائط” الرواية العربية، ربما الوحيدة، التي اشترك في كتابتها كاتبان اثنان هما جبرا وعبد الرحمن منيف، فإنّ مدينتها المختلقة “عمورية” (ظهر اسمها من قبل في رواية منيف “شرق المتوسط”) هي مزيج من عواصم عربية مختلفة وواقعة تحت نفس ظروفها الاجتماعية والسياسية، من حيث العلاقة الصدامية بينها وبين أبطالها وخضوعها لصراع عنيف بين ماضيها وحاضرها وبين هويتها والمد الثقافي الغربي، وبطلها الأستاذ الجامعي والروائي “علاء الدين نجيب” يمثل المثقف العربي.
السؤال الفلسطيني
في نهاية كتابه “معايشة النمرة”، يجيب جبرا عن السؤال الفلسطيني وحضوره في أعماله الروائية ودراساته النقدية وشعره.
إنّ الإبداع والكتابة الجيدة بالنسبة لجبرا هي نضال قد لا يقل أهمية عن أي نوعٍ آخر من النضال، يقول: “نحن لم نصوّر الفلسطينيين بوصفهم أناساً لا يعرفون ما معنى أن يُنظر إلى شجرة، أو ما معنى أن ننظر إلى الأفق فنراه بشكلٍ ما، وما معنى أن يحب الإنسان، أو أن تحب المرأة لدرجة الجنون، هذه كلها أجزاء من الحياة التي نقول نحن عنها إنها بعض ما نحارب من أجله، لأنّ حقنا نحن الفلسطينيين في الحياة هو حقنا في أن نرى هذه الأشياء كلّها على طريقتنا، ونؤكد بذلك حضورنا إنسانياً. هذا في الحقيقة هو الذي حاولتُ أن أفعله بالذات. كتاباتي كلها عن فلسطين، وعن الدور الإنساني لفلسطين. في الغرب يصوروننا أحياناً نحن الفلسطينيين بوصفنا إرهابيين، وهذا جنون. فليقرأونا، نحن في الواقع نأتي إلى الحياة ونحكي إلى الناس وأيدينا مملوءة بالحب”.
الرسام في بيت لحم
قال جبرا مرة: “غالباً ما رأيت الناس يندهشون او يستغربون حين يجدونني أرسم، وبكثرة واهتمام، إلى كتاباتي. أما أنا فلم يخطر ببالي يوماً أن في الجمع بين الكتابة والرسم ما يدعو إلى الدهشة أو الاستغراب. فقد نشأت منذ الصغر على كليهما معاً، أتمتع بكليهما، وأتابعهما كليهما في دراساتي. كنت أيام المراهقة مفتوناً بكلمة فنان، وأشعر أنني في موقفي من الحياة، من الناس، من كل ما يحيط بي، إنما أنا فنان”.
بحث مقتني أعمال جبرا الشاب جورج ميشيل الأعمى عن أعمال محتملة، عبر التفتيش في كل بيت من بيوت جبرا السبعة التي سكنها في بيت لحم، حتى عثر داخل أحد البيوت على 12 عملاً فنياً يعود تاريخها إلى أربعينيات القرن الماضي، وتحديداً بين عامي 1946 – 1948، تنوعت الأعمال بين الرسم على الزجاج والخشب والخيش، ويظهر فيها تأثر جبرا بالأسلوب الوحشي مقترباً من هنري ماتيس.
بحسب منذر جوابرة، تعدّ هذه الأعمال نموذجاً مهماً من نماذج التطور الفني في فلسطين، في تلك الفترة التي اتسمت أغلب نتاجاتها بالكلاسيكية أو تأثرها بالأعمال الاستشراقية التي أنجزها فنانون أوروبيون. كذلك تختلف مواضيعه تماماً عن الموضوعات السائدة.
هكذا، رسم جبرا مشهديات يومية من الحياة الفلسطينية، إلى جانب محاولاته في رسم مواضيع تتعلق بتجربته الشخصية، موظفاً القيمة البشرية كأساس لعمله الفني الذي ربط فيه بين المكان والناس، وتجلى ذلك في رسم التكوينات البشرية المحيطة بصورته الشخصية.
لقد أسس جبرا مع جواد سليم «جماعة بغداد للفن الحديث» (1951)، وتولى لاحقاً رئاسة تحرير مجلة «فنون عربية» التي أصدرتها «دار واسط» في لندن (1980 – 1983). كذلك شغل منصب رئيس «رابطة نقاد الفن في العراق» منذ إنشائها في أيار 1982. وشارك كرسام في أعمال فنية في المعارض التي كانت تقيمها «جماعة بغداد للفن الحديث» في بغداد (1951- 1971).
الرجل الذي عايش النَمِرة
ينتهي جبرا مع الروائي والشاعر اليوناني نيكوس كازانتزاكيس إلى تسمية الكتابة “ذلك الفعل الخلّاق المستمر الأثر” بالنَمِرة، “رفيقتي أينما ذهبت”.
في كتابه “معايشة النمرة وأوراق أخرى” يتحدث جبرا عن تجربته مع الكتابة طوال سنين ما عاد يحصيها، بنبرته الشخصية، ومواقفه وقضاياه الحياتية.
لقد عايش جبرا النَمِرة كتابةً وترجمةً، بأكثر من 50 كتاباً، توزّعت بين الشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والفني والتاريخ والترجمة (لا سيما ترجمته لسبعٍ من مسرحيات شكسبير، وثلاثة كتب عنه، وترجمته رائعة فوكنر: الصخب والعنف، وجزءاً من كتاب: الغصن الذهبي).
وينتهي إلى القول كما فعل كازانتزاكيس: “كلمات! كلمات! ما من خلاصٍ بغيرها! وأنا لا أتحكّم إلا بثمانيةٍ وعشرين جندياً صغيراً من صوَر. سأحشدهم، وأقيم منهم جيشاً، وبهم سوف أقهر الموت!”.
في ذكرى رحيله الــ 28، فعل جبرا ذلك، مرّة جديدة.
سيرياهوم نيوز1-الميادين