نزار نمر
في الأيّام القليلة الماضية، عصف مقطع للإعلامي «التهريجي» هشام حدّاد بمواقع التواصل الاجتماعي بين جوقة تطبيل مؤيّدة تصدّرتها صفحة «إسرائيل بالعربية» الصهيونية الرسمية، وبين معارضين لكلّ ما جمعه الرجل من عناصر تركيبية انتهت مادّةً سامّة في يَد عدوّ أضافها إلى ترسانته الكيميائية والمحرّمات الدولية المباحة.
في الحالات الطبيعية الخالية من أي عصف، قد يكون من الأجدى التحذير من الاضطراب القادم في نشرة أحوال جوّية. لكن في خضمّ العصف، تنطبق مقولة «الباب الذي يأتيك منه ريح، سدّه واستريح». وهذا تماماً مغزى الردّ على التهريج السالف، فكيف إذا كان صادراً عن شخص بنى حياته المهنية على السخرية من الأخضر واليابس، ونصّب نفسه شرطيّاً وقاضياً حتّى أصابته نشوة المهنة بالعمى على أخطائه ونطنطاته من بركة إلى أخرى، إلى أن لفظه المحيط السعودي منذ مدة. المشكلة هنا لم تعد اختلاف آراء، ليقال إنّ تفاهات مماثلة لا تستأهل الردّ ومن الأفضل تجاهلها. إنّها ساعة الصفر. هناك مَن يفكّك قنبلة قد تنفجر في غضون دقائق معدودة، وخلفه مشوِّش مشوَّش العقل، يردّد ما سمعه من زارع القنبلة. الأنكى أنّ التشويش هذا قد يحول دون تفكيك القنبلة، وبالتالي امّحاء كلَيهما من الوجود، فيما زارع القنبلة يصفّق لمغفّله المفيد قبل انتفائه بعد انتفاء الحاجة إليه.
لذا، وجب منع اتّساع التشويش قبل أن يمسّ وجودنا كلبنانيّين، خصوصاً أنّ مطلقه جمع حضوراً معتبراً عبر التهريج قبل بخّ مساحيق غسل الأدمغة. هكذا، عبر أحد أبواق الحرب النفسية العدوانية، فاتح هشام حدّاد اللبنانيّين بأن «انهزمنا». ليس معروفاً ما الذي يحاول إيصاله أو إثباته بالتحديد. حسناً، فلنعلن انهزامنا جميعاً. ننال تصفيق الجميع الحارّ، قبل أن يخرقه رنين بارد في الزاوية. نتذكّر أنّ هناك قنبلة لا تزال موقوتة، وليس هناك مَن يفكّكها. هل هذا ما يريده من إعلان الهزيمة؟ هل يتنظر من نتنياهو مثلاً إيقاف حرب يريد عبرها «شرق أوسط جديداً» وأجهض من أجلها كلّ فرصة للهدنة؟ لكن مهلاً؛ لماذا يتكلّم حدّاد بصفة جمع المتكلّم؟ كيف لشخص لم يشارك في الحرب لا من قريب أو بعيد، أو حتّى يؤيّد مَن شارك فيها، أن يصرخ متألّماً من الهزيمة، فيما يقول حدّاد نفسه إنّ هناك مَن خسروا كلّ ما لديهم، لكن ما برحوا يؤكّدون ثباتهم الذي لن يحيد عن مجابهة زارع القنابل؟
الجواب بسيط. إنْ نُزِع السياق «الوطني» المنافق الذي حاول الإعلامي إسقاطه على كلامه، لا يعود هناك من بُعد عن الواقع. يستحيل الراوي المهوّل مجرّد ناطق باسم مهزومين، بمشروعهم ورهاناتهم وكيانهم. القصّة ليست مجرّد ضرورة الوقوف الأعمى إلى جانب الوطن في ظروفه العصيبة وطقوسه العصبية، على أهمّية بثّ روح المعنويّات بدلاً من الجروح الانهزامية. هي قضية عدالة في التغطية. موضوعيّاً، لم ننهزم. المتكلّم هنا هو المواطن اللبناني العادي. ولتسهيل عملية تخيّله، يمكن الاستعانة بشخصية «توما» لفنّان الكاريكاتور الراحل بيار صادق. نعم، دُمّرت بيوتنا ومؤسّساتنا ومستشفياتنا ومدارسنا وآثارنا وقرانا، واستُشهد أطفالنا ومقاومونا وقادتنا ومسعفونا وصحافيّونا… لكن لم ننهزم، ولن ننهزم. بل إنّ كلّ هذه الخسارات ليست سوى محفّزات إضافية لرفض أيّ تعايش بجوار زارع القنابل. عندما ينخر السرطان جسداً ويتلف أعضاءه، ردّ الفعل المتعارف عليه هو وجوب المقاومة وعدم فقدان الأمل حتّى القضاء عليه. وفيما السرطان ينخر كياننا، هناك أعضاء لم يصل إليها، تقرّر أنّ الكيان الذي تنتمي إليه، انهزم وما عليه سوى الخنوع والاستسلام للسرطان خاضعاً. أيّ عاقل يؤمن بتعايش مع السرطان؟ وأيّ عاقل يتجاهل إيلام السرطان ومنعه من التقدّم أكثر إلى داخل الجسد، والتمهيد ربّما للقضاء عليه نهائيّاً؟
وصل بهم الأمر حدّ الادّعاء بأنّ «لبنان هو الذي يعتدي على إسرائيل»
هل يعرف هشام حدّاد أنّ أهداف الكيان الصهيوني هي هي بمقاومة أو من دونها؟ وإن كان يشكّك بذلك مع أصدقائه (الآنيّين ربّما، بالنظر إلى تقلّباته) من اليمين الانعزالي ممّن يحلو لهم تسخيف مشروع «إسرائيل الكبرى» واعتباره مجرّد حجّة للمقاومة (تعبير «حجّة للمقاومة» بحدّ ذاته غبيّ)، ما عليه سوى النظر إلى الاحتلالات السابقة للبنان والجولان وسيناء، وحالة الضفّة الغربية ذات السلطة المطبّعة حتّى العمالة و«التنسيق الأمني» الذي لا يمنع هجمات ولا حصاراً اقتصادياً ولا استيطاناً توسّعيّاً. وإن كان يضحك ويستهزئ بأنّ لبنان ليس الضفّة، فليعلم أنّه ليس كذلك بسبب فشل السرطان في الوصول إلى دماغ جسدنا وتنصيب سلطة عميلة له، بفضل مضادّات المقاومين التي دحرته عن الدماغ أوّل مرّة وستقوم بالطريقة ذاتها بدحره عن كامل الجسد. «حرب الإسناد» كانت إلى جانب جانبها الإنساني، تحرّكاً استباقيّاً لمنع القضاء على غزّة واحتلالها، ثمّ الضفّة، قبل التفرّغ للبنان الذي يكون قد لجأ إليه ملايين الفلسطينيّين الذين يتذمّر من وجودهم اليمين المتواطئ مع إبادتهم. ولو لم تشارك المقاومة في القتال، لسُئلت عن مغزى سلاحها، أمّا وقد شاركت، فسُئلت السؤال عينه! هذا إذا تجاهلنا كلّ التهديدات الصهيونية منذ عقدَين بحرب كنّا نعرف بحتميّتها، وبتفخيخ أجهزة اتّصالات المقاومة منذ عام 2015، وبتفجير مسيّرة في ضاحية بيروت الجنوبية عام 2019، وبنيّة نتنياهو التي لم يخفها قبل يوم من حرب الإسناد. واهم مَن يعتقد أنّ الإبادة التي تحصل هي مجرّد ردّ على بضعة صواريخ استُهلّت على أراضٍ لبنانية محتلّة. وإذا كانت هذه الصواريخ تبرّر الإبادة بالنسبة إلى حدّاد وأعوانه ممّن يتبنّون عقيدة «حقّ إسرائيل بالدفاع عن نفسها»، فإنّ لنا وفقاً للمنطق ذاته الحقّ بالردّ على قرابة 40 ألف خرق صهيوني وثّقته الأمم المتّحدة. وإذا كان يرى أنّنا «انهزمنا»، فكان من الأجدى به وضع طاقته لمصلحة فضح جرائم العدوّ والسؤال عمّا يحول دون قدرة الدولة اللبنانية على الدفاع عن بلدها، وهو ذاته كان يردّد الجواب قبل أحد تقلّباته الكثيرة.
هل يدرك هشام حدّاد معنى أن يكون الكيان السرطاني بأكمله تحت دائرة النار، وأن ينزل كلّ مستوطنيه إلى الملاجئ على امتداد الأراضي المحتلّة دفعةً واحدة؟ هل يعرف معنى تعطيل الحياة بالكامل في شمال فلسطين المحتلّة، ومنع المستوطنين من العودة إليها، بل ودفعهم إلى المغادرة إلى البلدان من حيث أتوا؟ هل يعي معنى الوصول إلى كلّ القواعد العسكرية الإستراتيجية، وغرفة نوم رئيس وزراء العدوّ، وصالة عشاء لواء «غولاني»؟ هل يفهم معنى التصدّي للغزو البرّي، ومنع احتلال ولو قرية واحدة طوال أكثر من شهر، من قبل عدوّ فرّغ فرقات عدّة من جيشه، ووصل ذات يوم إلى بيروت بين ليلة وضحاها؟ هل يلاحظ القدرات التي تكشف عنها حركة مقاومة تعرّضت لكلّ أنواع الضربات وصولاً إلى قادتها، وتعافت في مدة قياسية وفي ظروف الحرب؟ هل هذا كلّه انهزام؟ ألا يستنتج أنّ تدمير بلدنا هدفه الانتقام من عدم القدرة على هزيمتنا؟ وإلّا، إذا أردنا قياس الهزيمة وفقاً للخسارات البشرية والمادّية، فقد نصل إلى أنّ هتلر ربح الحرب العالمية الثانية بما أنّه ارتكب الهولوكوست وقتل أكثر من 20 مليون سوفياتي وعشرات آلاف المقاومين الفرنسيّين، وأنّ فرنسا ربحت في الجزائر لأنّها أسقطت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد، وأنّ نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا لم يسقط، وأنّ احتلال فييتنام استمرّ… كيف تعتقدون ماهية المقاومة؟ ثمّ يأتينا مَن يريد مساواة قدرات المقاومة بقدرات العدوّ المدعوم بالمليارات الأميركية، ويستشهد بصحافيّين «مؤيّدين بالمقاومة»، متناسياً الضربات القاسية التي تؤلم العدوّ رغم كل شيء.
نحن نحارب أكثر الاحتلالات توحّشاً وندافع عن الإنسانية نيابةً عن العالم أجمع. لبنان وحده يقف إلى جانب غزّة سدّاً منيعاً أمام احتلال دول عربية يمكن أن تنهار في غضون يوم واحد إن قرّر الاحتلال التوقّف عن مساكنته لها، بعد أن يكون قد انتهى من الخطر الداهم من لبنان وغزّة وباقي محور المقاومة، وتفرّغ لها. وإذا كان هناك اعتراض من جوقة لم تتأثّر بالحرب أساساً، فمكمن الاعتراض الخوف على كيان الاحتلال لا على لبنان، هي التي تنتقد أيّ ردّ قوي من المقاومة على مجازر الاحتلال، مدّعيةً أنّ خوفها من الردّ، فيما تصيح عندما لا يكون هناك ردّ. وقد يتلطّى هؤلاء وراء شعار «لبنان لا يريد الحرب» لادّعاء أنّهم معارضون لها فيما المقاومة تسبّبها، إنّما في الواقع، المقاومة لم ترد الحرب، ومطلقو هذا الشعار هم مَن يبرّرون للعدوّ مجازره ويعطونه إحداثيّات ليصعّد من عدوانه. ووصل بهم الأمر حدّ ادّعاء بأنّ «لبنان هو الذي يعتدي على إسرائيل» وأنّ العدوّ «لم يقصف أيّ هدف في لبنان بشكل عشوائي بل تجنّب الإضرار بالمدنيّين وتعلّم من أخطائه». حاصل الأمر، أنّه مهما اشتدّت الرياح الصادرة من هذه الأبواق، فالكلمة كانت وستظلّ للميدان. وإن كنّا «انهزمنا»، فلماذا الحرب علينا مستمرّة؟
سيرياهوم نيوز١_الأخبار