خلف جابر
من عامل بسيط في مطعم والده، إلى صانع أحذية لمدة عامين.. كيف صنع جرجي زيدان مجده الأدبي؟
في 14 كانون الأول/ديسمبر 1861، على عتبات الدخول في فصل الشتاء، كان حبيب زيدان يقضي ساعات العمل داخل مطعمه في ساحة البرج في بيروت، منصرف الذهن إلى أمر جلل، تكشّف للجميع حين دخل عليه من يزفّ البشارة بأنّ زوجته مريم مطر وضعت مولودها. استقرّ بال الأب بعد ذلك، وهدأت صرخات الأم، وجاء إلى الدنيا طفل عرفه الناس في ما بعد كاتباً مشهوراً اسمه جرجي زيدان.
وُلِد لأسرة بسيطة وعَمِل صانع أحذية
وُلِدَ جرجي حبيب زيدان لأسرة مسيحية بسيطة، تعود أصولها إلى منطقة حوران السورية، انتقلت كغيرها من عائلات حورانية عديدة إلى لبنان، وتحديداً إلى قرية تدعى عين عنوب، لينتهي بها المطاف في وقت لاحق مستقرة في بيروت، بعد أن هاجرت جدته لأبيه إليها مع بنتيها وابنيها، وكان أكبرهم حبيب والد جرجي.
كان حبيب، رب الأسرة، رجلاً أمّيّاً، يملك مطعماً صغيراً يتردد عليه عدد من الكتاب والأدباء، يتناولون الطعام ويثرثرون سويّاً في السياسة والفن. غير أنّ الرجل لم ينشغل بغير ما تحويه جيوبهم، لعلّه يجد في آخر الليل ما ينفقه على أسرته.
حين أتمّ الطفل جرجي سنواته الخمس، أرسله والده إلى مدرسة بسيطة لكي يتعلم الكتابة والحساب، وكان ذلك بغرض الاستفادة منه في تدوين حسابات مطعمه، بدلاً من الاستعانة بشخص آخر من خارج الأسرة.
في عمر 9 سنوات، انتقل جرجي زيدان إلى مدرسة الشوام، حيث تعلّم اللغة الفرنسية. لكن هذه المدرسة أغلقت عام 1870، ليتنقل بعدها بين مدارس عدة، تعلّم فيها اللغة الإنجليزية،حتى دفعته الظروف المادية الصعبة للأسرة إلى ترك الدراسة، واستعان به والده في العمل بالطعم.
كان جرجي يحمل إلى الزبائن الطعام والماء، مع وجود فارق بسيط بينه وبين والده، وهو أنّ رأسه التي فوق كتفيه كانت الأقرب إلى حديث الزبائن من الأدباء والمفكرين، في الوقت الذي كان والده مشغولاً بما يدفعونه من مال. فقد كان الطفل يلتقط من بينهم الأشعار التي يلقونها، مسحوراً بأحاديثهم في السياسة والأدب والفن، مستعيناً بما يعرفه من اللغتين الفرنسية والإنكليزية.
لم يدُم هذا الحال طويلاً، إذ سرعان ما اعترضت والدته على عمله مع والده، فقد كانت تطمح أن يكون مستقبله أفضل من ذلك، وأرادت له أن يتعلّم صنعة، فاتّجه إلى تعلم صناعة الأحذية وهو في الـ12 من عمره، وبقي فيها مدة عامين، لكنّه سرعان ما أدرك أنّ راحة أقدام الناس ليست مسعاه، بل جعلهم يحركون ما فوق أكتافهم ودفعهم إلى التفكير، هو ما سيصبح شغله الشاغل طوال سنينه المقبلة، لذلك عاد إلى مطعم والده مرة أخرى، يعمل فيه بين زبائنه من رجال الأدب والفكر.
اهتمّ بالأدب منذ الطفولة واقترض 6 جنيهات ليسافر إلى مصر
الانشغال بالأدب لم يكن وليد لحظة بعينها، فقد نشأ الطفل جرجي مهتمّاً بالقراءة والاطلاع، ميّالاً إلى المعرفة، شغوفاً بالأدب. مدفوعاً بذلك، انتظم في حضور حفلات “جمعية شمس الدين بدر الأدبية”، التي أنشئت في بيروت، وكانت فرعاً من فروع “جمعية الشبان المسيحيين” في بريطانيا، التي أصبحت سبيله إلى توثيق صلته برجال الصحافة وأهل اللغة والأدب، أمثال يعقوب صروف وفارس نمر.
خلال تلك المرحلة أيضاً، توثّقت علاقته بعدد من طلبة المدرسة الكلية للطب فى بيروت، الذين كان لهم الفضل في تبديل مسار حياته، من خلال دعوته إلى المشاركة في احتفالات الكلية، التي عزم على الالتحاق بها واستكمال دراسته، فترك العمل نهائياً وانكبّ على التحصيل والمطالعة راغباً بالالتحاق بمدرسة الطب. وبالفعل تمكّن من اجتياز الاختبارات، واستمرّ يدرس فيها مدة عامين، حصل خلالهما على شهادة في الكيمياء التحليلية بدرجة امتياز، وأخرى في اللغة اللاتينية.
ربما كان الظمأ إلى المعرفة إحدى أبرز سماته الشخصية، فهو لم يكتفِ بما درسه في المدرسة الكلية للطب في بيروت، بل سرعان ما قرّر دراسة الطب البشري في مدرسة قصر العيني في مصر، وقد كان وقتها على حالته من الظروف المعيشية الصعبة، ولم يكن معه من المال ما يكفي نفقات السفر إلى مصر، فاقترض من جار له في بيروت 6 جنيهات، على أن يردّها له حينما تتيسر الأحوال.
بين الأدب والصحافة
في تشرين الأول/أكتوبر عام 1883، وصل جرجي زيدان إلى مصر قاصداً الالتحاق بمدرسة الطب، لكنَّ أسباباً كثيرة دفعته إلى العدول عن فكرته، في مقدمتها طول مدة دراستها في ظل ظروفه المادية الصعبة. انصرف بعد ذلك إلى العمل في صحيفة “الزمان” اليومية، التي كان يصدرها علسكان صرافيان، وهي الصحيفة اليومية الوحيدة التي كانت تصدر في القاهرة في ذلك الوقت، بعد أن عطّلت سلطات الاحتلال الصحافة المصرية إثر ثورة أحمد عرابي.
لم يسِر طريق جرجي زيدان في العمل الصحفي على خط مستقيم، بل كثيراً ما ذهب إلى مناطق أخرى ثم رجع إلى الصحافة. ففي العام التالي لوصوله، 1884، انتقل للعمل كمترجم في مكتب المخابرات البريطانية في القاهرة، ورافق الحملة النيلية التي توجهت إلى السودان لإنقاذ القائد الإنجليزي غوردون من حصار محمد أحمد المهدي له. ولم يستقرّ في مصر بعد عودته، فسافر إلى بيروت وانضمّ إلى “المجمع العلمي الشرقي” الذي أنشئ عام 1882، وقضى فيه 10 أشهر درس خلالها اللغات الشرقية.
في تلك الفترة، تقاطع المشروعان الأدبي والصحفي لدى جرجي زيدان، ففي العام 1886 تمكّن من تأليف أول كتبه تحت عنوان “الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية”، وقد أصدر منه طبعة جديدة عام 1904 بعنوان “تاريخ اللغة العربية”. وقد كان هذا الكتاب نواةً لمشروع أدبي انصبّ على اللغة العربية وأدبها، وبدأ في الوقت ذاته بإرسال مقالات أدبية وبحوث علمية إلى مجلة “المقتطف”، قبل أن يتولّى إدارتها في ما بعد لمدة عامين مقابل 8 جنيهات شهرياً.
وسرعان ما انتدبته المدرسة العبيدية الكبرى لطائفة الروم الأرثوذوكس في مصر، ليتولّى مهمة إدارة التدريس فيها، ليترك الصحافة متوجّهاً إلى التدريس الذي قضى فيه سنتين. ولم يكن انقطاعه عن الصحافة انقطاعاً عن الكتابة، فخلال تلك الفترة تمكّن من تأليف أولى رواياته التاريخية، وهي “المملوك الشارد”، والتي كانت بداية لمشروعه في كتابة الرواية التاريخية، حيث جاء بعدها العديد من الروايات، نذكر منها “عذراء قريش”، “غادة كربلاء”، “فتح الأندلس”.
ورغم أنّ الكتابة تُعَدّ حلقة مهمة في سيرة جرجي زيدان، إلا أنّه لم يكتفِ بها، بل دفعه انصراف الشوام إلى مجال النشر والصحافة إلى التعاون مع نجيب متري، مؤسس “دار المعارف”، في إنشاء مطبعة، لكنّها شراكة لم تستمرّ طويلاً، حيث دبّ الخلاف بينهما، فاستقلّ زيدان بالمطبعة وراح يعمل على تطويرها، وأطلق عليها اسم “مطبعة التأليف”، وقد صدرت عنها مجلة “الهلال”، التي تُعَدّ درّة مسيرة جرجي زيدان، والصرح الثقافي الذي ضَمِنَ له الخلود لاحقاً.
المجلة “تظهر كل أول شهر كالهلال”
تُعَدّ مجلة “الهلال” المجلة الثقافية الأولى والأهم في العالم العربي، وقد أسماها صاحبها بهذا الاسم لأنّها “تظهر كل أول شهر كالهلال”، وأيضاً “تفاؤلاً بنموّها مع الزمن، حتى تكتمل بدراً”، بالإضافة إلى وجود سبب آخر، ربّما غازل به السلطة آنذاك، قائلاً: “تبرّكاً” بالهلال العثماني رفيع الشأن، شعار “دولتنا العليّة أيَّدها الله”.
صدر العدد الأول من مجلة “الهلال” في أيلول/سبتمبر عام 1892، وخرجت في 22 صفحة عن مطبعة “التأليف”، التي صارت لاحقاً بعد مطبعة “الهلال” الواقعة في شارع الفجالة. وقد اختار زيدان هذا الحي لقربه من مواطنيه السوريين واللبنانيين، وأيضاً لحنكته التجارية، حيث أنّ وقوع هذا الحي وسط القاهرة، في مواجهة محطة قطارات السكة الحديد، سهّل توزيع مجلته إلى جميع الأنحاء من دون تكلفة.
وكان جرجي زيدان هو من يحرر مجلته بنفسه في بداية الأمر، ثم بعد سنوات قليلة أصبحت قِبلة المفكرين والكتاب العرب، وتتابع على رئاسة تحريرها أدباء كبار، أمثال أحمد زكي وحسين مؤنس وعلي الراعي والشاعر صلاح جودت.
عاش جرجي زيدان حياته على طريقة البرق، يخطف النظر ثم سرعان ما يختفي، هكذا اعتاد بدءاً من العمل في مطعم والده، وتعلُّم صناعة الأحذية، وصولاً إلى دوامة الأدباء والمفكرين التي لم يسلم منها، حتى توفّي فجأة بين أوراقه وكتبه، في 21 تموز/يوليو 1914. وكان لموته صدى كبيراً، وقد نعاه كبار الشعراء وقتها، بينهم حافظ إبراهيم وخليل مطران وأحمد شوقي.
سيرياهوم نيوز 1- الميادين