| محمد علي
جريمة بكل المقاييس ما يحدث في مصر. تستمرّ الجرّافات في هدم ما يتوقع أن يصل إلى 2700 مقبرة في منطقة «مقابر الإمام الشافعي» و«السيدة نفيسة» ضمن «مشروع تطوير القاهرة التاريخية» التي أعلنت عنه الحكومة قبل سنوات. مدافن شُيِّدت قبل مئات السنين مقابر تعد جزءاً أساسياً في ذاكرة وتاريخ المدينة التي تجاوز عمرها ألف عام
وتقع مقابر الإمام الشافعي المعروفة باسم «القرافة الصغرى»، عند سفح جبل المقطم، وتعد ثاني أقدم مدفن لا زال مُستخدماً حتى الآن بعد مدافن البقيع في السعودية. وقد سجّلتها «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونسكو) ضمن منطقة القاهرة التاريخية، في عام 1979، كموقع تراثٍ عالمي. وفي السنوات الأخيرة، كررت اليونسكو شكواها من الإهمال الذي تتعرض له المنطقة، مهددةً بشطبها عن قائمة التراث العالمي، ونقلها إلى قائمة التراث المعرّض للخطر. ومع إصرار السلطات في مصر اليوم على إتمام ما أسمته «مشروع تطوير القاهرة التاريخية»، يتم محو هذا التاريخ تماماً، بينما لم تستطع، حتى الآن على الأقل، الأصوات الغاضبة التي علت من قبل الاختصاصيين والمهتمّين بالآثار وتاريخ القاهرة وآثار أهلها في إيقاف الجرافات في وقت ربط الصمت ألسنة الكثير من الفنانين والمثقفين إما بسبب تحالفهم مع السلطة أو خوفاً منها!
إلى جانب مقابر وأحواش لآلاف المواطنين العاديين، تضم مقابر الإمام الشافعي مدافن لشخصيات تاريخية ومؤثرة تركت بصمتها في الحياة والتاريخ المصريين. وتحتوي هذه المقابر على معمار جنائزي مميّز يضم تركيبات رخامية وحجرية وشواهد مكتوبة بخطوط عربية فريدة. وبحسب مراقبين ومهتمّين بتاريخ الجبانات، من المتوقع أن تُهدم نحو 2700 مقبرة في منطقة «مقابر الإمام الشافعي» و«السيدة نفيسة» ضمن مشروع تطوير القاهرة التاريخية التي أعلنت عنه الحكومة قبل سنوات.
ويحذر المهتمّون بتاريخ الجبانات من تدمير هذه المقابر التي تحتوي على تركيبات وشواهد تاريخية، من أجل شقّ طريق يمكن الاستغناء عنه. الحجة التي ترددها الحكومة بأنّ هذه المقابر ليست أثرية وغير مسجّلة كآثار، وهو ما تعتبره أستاذة العمارة والتصميم المساعدة سالي رياض، جريمة بحدّ ذاتها، مؤكدة في حديثها معنا أنّ عدم تسجيل المبنى كأثر لا ينفي عدم أهميته، مشيرة إلى مفهوم «قيمة المبنى»، فتسجيل المبنى في قائمة الآثار في وزارة السياحة والآثار يضعه تحت قانون حماية الآثار، وبالتالي قانوناً، يجب حمايته من الهدم. وتوضح سالي رياض أنّ تسجيل المبنى كأثر أو عدم تسجيله هو قرار حكومي في النهاية، و«لدينا حكومة ذات رغبة واضحة في القضاء على كل ما هو تاريخي». وأشارت رياض إلى أنّ ما تتعرض له القاهرة التاريخية لا يمكن فصله عما يحدث بشكل عام في القاهرة وآثارها وأحيائها، فهناك قرار واضح بتدمير القاهرة وكل شيء ذات قيمة فيها. وألمحت رياض، التي تعمل على توثيق المقابر قبل هدمها، إلى سرقات تحدث بشكل منظم للشواهد والتركيبات الموجودة في المقابر قبل هدمها. أمر أكّد عليه أيضاً مؤسس مبادرة «شواهد مصر» حسام عبد العظيم، لافتاً في حديث معنا إلى وجود سرقات لبعض القطع التاريخية في المقابر التي تتم إزالتها.
تشكيلي مصري معروف يحصل على مسروقات المدافن التاريخية ويُعيد بيعها لأشخاص في الخليج
وكذلك، يقول مؤسس صفحة «جبانات مصر» إبراهيم طايع لنا إنّه «تم العثور على تركيبة عثمانية تعود إلى أكثر من 200 عام، مسروقة من حوش الباشا المسجل في عداد الآثار وتباع في محلّ أنتيكات».
وقالت مصادر لـ «الأخبار» إنّ فناناً تشكيلياً مصرياً شهيراً أصبح معروفاً عنه أنه هو الوسيط الذي يحصل على المسروقات من سارقيها، أو من باعة الأنتيكات ويقوم بإعادة بيعها لأشخاص في دول خليجية. وأضاف المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه أنّ المسروقات تكون عبارة عن شواهد القبور عليها نقوش ومكتوب عليها بخطوط كوفية، إلى جانب التركيبات الرخامية، والقطع المعدنية والشبابيك النحاسية. يؤكد حسام عبد العظيم أنّ من بين الشواهد التي تمّت سرقتها شواهد وتركيبات تاريخية يعود بعضها إلى عهد محمد علي باشا والدولة العثمانية، أي مرّ عليها 400 سنة، لافتاً إلى أنه حتى بعض الشواهد والتراكيب التي تم سُلّمت للجنة الآثار في حوش الباشا، سُرق بعضها، و«أبلغنا بعد ذلك ولكن شيئاً لم يحدث لاستعادتها».
ربط الصمت ألسنة الكثير من الفنانين والمثقفين إما بسبب تحالفهم مع السلطة أو خوفاً منها
وأكد الباحث الأثري المستقل مصطفى صادق لنا إنّ عمليات الإزالة في مقابر الإمام الشافعي تتم بشكل سريع ومتسرّع، وبالتالي تفتح الباب أمام اللصوص لسرقة ما يريدون، ففور وضع علامة الإزالة على المقابر، يتم نهبها والعبث بها. ولفت إلى أنّ هؤلاء اللصوص لا يعرفون قيمة ما يسرقونه، ويبيعونه بأسعار زهيدة لأشخاص يستطيعون تحديد قيمته الحقيقية لإعادة بيعه بأسعار باهظة.
وأوضح مصطفى بأن المقابر بحدّ ذاتها طراز معماري جنائزي فريد، وتُعد ذاكرة مهمة لتاريخ القاهرة يجب الحفاظ عليها والتعامل معها باحترام. أما عن التراكيب والشواهد، فهي تحف فنية عليها نقوش وخطوط غاية في الروعة والدقة والجمال، تؤرخ لشخص المتوفى والحقبة الزمنية التي عاش ومات فيها، وبالتالي «أنا اعتبر أن هذه المقابر بشواهدها وتراكيبها كتاب تاريخ مفتوح نتعرّف منه على شخصيات تاريخية قد تكون ذات تأثير كبير ممتد حتى الآن».
وحذرت سالي رياض من وضع علامات الإزالة على مقبرة الأمير يوسف كمال، وهو أمير من أسرة محمد علي باشا، ومؤسس مدرسة الفنون الجميلة في القاهرة عام 1905، و«جمعية محبي الفنون الجميلة» عام 1924 وكذلك شارك في تأسيس الأكاديمية المصرية للفنون في روما. وقالت سالي إنّ «مقبرة الأمير يوسف كمال بديعة، وذات تراث معماري فريد، وقد باتت اليوم مهدّدة بالإزالة وسرقة محتواها من قبل اللصوص من سماسرة الأوطان والتراث هادمي الحضارات».
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار