منذ أن وعى الإنسان وجوده على الأرض واستطاع أن يعبر بالمفهوم كان الإبداع الذي يعني بالضرورة وجود النقد.
أي القراءة الواعية لما يتم طرحه قراءات نقدية تبين مواضع الجمال والقوة وبالوقت نفسه تشير إلى مكامن الخلل أو الضعف وتعمل على تنبيه المبدع لها لتجنبها في أعماله الجديدة.
إذن النقد هو عمل الحياة الدائم والدؤوب وأي عمل لا يخضع للنقد ليس بعمل ولا قيمة له.
ويمكن القول إن المشهد الإبداعي العربي قبل نصف قرن ونيف كان يحتفي بالنقد كثيراً، وظهر نقاد كبار مثل محمد مندور وطه حسين ومارون عبود ومحيي الدين صبحي وعمر الدقاق وعبد الكريم الأشتر وعبد الكريم حسن وغيرهم.
اليوم تحول النقد إلى حالة احتفالية باردة وهذا ما أضر بالإبداع وعلى رأي ميخائيل نعيمة فإن الإبداع الكبير يستدعي وجود ناقد كبير.
وربما كان كتابه الغربال خير دليل على ذلك إذ استدعى وجود مبدعين كبار نقاد كبار مثل نعيمة فكان كتابه الغربال الذي يقف عنده الناقد المغربي مصطفى الحسونة في موقع طنجة فيرى (إذا كان الأدب عند نعيمة تعبيراً عن الذات وعن الجماعة، وإصلاح للملكات الفكرية، وبناء للأفراد والأمم، فالنقد في نظره، كذلك، لا يقل أهمية على الأدب، لكونه يقف إلى جنب الإبداع، فيبرز أخطاءه، ويجنبه ثغراته بعد ترميمها، ويكشف الصالح من الطالح.
أن مهنة الناقد الغربلة. لكنها لسيت غربلة الناس. بل غربلة ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول. وما يدونه الناس..ما تعودنا أن ندعوه أدبا.
لكن كيف تتحقق الغربلة؟ وهل لها شروطها الخاصة أم لا؟ بالتأكيد للنقد أدواته الإجرائية كما يحددها مغربل الغربال. من بينها الاحتكام إلى الموضوعية والتسلح بالمعارف الأدبية واللغوية، والابتعاد عن الذاتية لأنها تجر إلى العمى وتورث البلى. كما تحجب رؤية الشمس وهي صافية. والابتعاد عن الأحكام الانطباعية، لأن ذلك ولى لزمن تم تدارك أخطائه. حتى إذا ما تحقق هذا كله، كان لزاما على الأديب والناقد ضرورة التمييز بين شخصيته الكائنة بلحمها ودمها، وشخصيته الفكرية، لأنه متى انعدم ذلك غابت رؤيا البصيرة الأدبية: الإبداعية منها والنقدية. وهي حقيقة نجدها عند ميخائيل في قوله:إن شخصية الكاتب أو الشاعر هي قدسه الأقدس. فله أن يأكل ويشرب ويلبس ما شاء ومتى شاء وحيث شاء. له أن يعيش ملاكاً. وله أن يعيش شيطاناً. فهو أولى بنفسه من سواه. غير أنه ساعة يأخذ القلم ويكتب. أو يعلو المنبر ويخطب. وساعة يودع ما كتبه وما فاه به كتاباً أو صحيفة ليقرأه كل من شاء، ساعتئد يكون كمن سلخ جانباً من شخصيته وعرضه على الناس قائلاً: هو ذا يا ناس، فكر تفحصوه. ففيه لكم نور وهداية. وهاكم عاطفة احتضنوها فهي جملية وثمينة.
إن فضل الكاتب كما يرى نعيمة يكمن في كونه رجل خبرة ومعرفة له من الشروط ما يجعله على خلاف غيره من المميزات، وهي:
– تمييزه الجميل من الشنيع والصحيح من الفاسد.
– قدرته على انتشالنا من خرافات أمسنا وتراهات يومنا.
– اختلاف النقاد فيما بينهم يعد تكاملاً يعكس قوة تميزهم الفطرية.
والناقد مرشد، لأنه كثيرا ما يرد كاتباً مغروراً إلى صوابه، أو يهدي شاعراً ضالاً إلى سبيله . لا أن نرى فيه عدواً ومحارباً يجني على عمل غيره، أو أن نرى في النقد حرباً بين الناقد والمنقود كما يذهب ميخائيل، بل يكفيه من صدق الصفات للقيام بعمله المحبة لمهنته، والغيرة على موضوعه، ودقة الذوق، ورقة الشعور وتيقظ الفكر.. فالناقد الذي توافرت له مثل هذه الصفات لا يعدم أناساً ينضوون تحت لوائه، ويعملون بمشيئته، فيستحبون ما يحب ويستقبحون ما يقبح. فيصبح سلطاناً تأتمر بأمره، وتتحلى بِحلاه، وتتذوق بتذوقه ألوف الناس. إذا طرق سبيلاً سلكوه. وإذا صب نعمته على صنم حطموه.
قد يسأل البعض وأي فضل للناقد إذا كانت مهمته لا تتعدى الغربلة؟ فهو لا ينظم قصيدة، بل يقول لك عن القصيدة الحسنة إنها حسنة. وعن القبيحة إنها قبيحة. ولا يؤلف رواية. بل ينظر فيها ليقول أعجبني منها كذا ولم يعجبني كذا، غير أنه رب من لا ينظم القصيدة أو غيرها يقرأ فيها أكثر مما أودعها ناظمها.
وبناء على سبق، إن ميخائيل نعيمة من خلال ما جادت به قريحته النقدية ضمن مؤلفه الغربال، قد وضع مجموعة من المقاييس العلمية التي تضع مفهوماً جديداً للأدب وللأديب، إذ الأدب كما يريد هو الذي يعبر عن هموم المجتمع ويعكس آمال وآلام أهله، أدب تختلط فيه الحياة ويستجيب لفضول القراء، كما رسم منهجية نقدية لمن أراد ممارسة النقد وفق شروطه المعقولة، وهي في نظرنا آراء وأفكار بناءة تجعل المتمسك بها في استعداد دائم لمواجهة متغيرات الحياة، وخوض غمار الإبداع والابتكار باستمرار).
إن خلاصة ما يمكن قوله: إننا اليوم بحاجة إلى مبدعين كبار مثل جبران خليل جبران والعقاد والمازني وبدوي الجبل ونزار قباني وغيرهم لاستعادة دور النقد نعم المبدع الكبير يهيئ لناقد كبير وإن كان النقد لم يعد اليوم خلف الأدب وتابعاً له بل استقل وغدا قائماً بحد ذاته.