آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » جفاف المنابع وموتها!

جفاف المنابع وموتها!

إسماعيل مروة

 

الفعل الثقافي فعل إنساني يحيا منه صاحبه، والاستثمار في الثقافة والإبداع من أهم الاستثمارات الرابحة عند الأمم المتحضرة التي تعطي الثقافة أهميتها، فهي في الدرجة الأولى تحقق نشاطاً اجتماعياً عظيماً، وهي تؤمن حركة اقتصادية مختلفة، وفي أعلى حالاتها تؤدي إلى رقي ورفعة في كل منحى من المناحي الحضارية، ولدى هؤلاء يكون المثقف والمبدع أقل الجوانب استفادة من الحركة، لكنه يستفيد ويحيا حياة كريمة، ويستمر في عملية الإبداع، لذلك نجد المبدع في تلك المجتمعات يمكن أن يحيا من عوائد كتاب أو أكثر بقليل حتى وفاته، ويمكن أن يحيا كل عمره من معرض تشكيلي أو من لوحات بسيطة قام بإبداعها..! فالاستثمار في الإبداع مهم للغاية، في الوقت الذي نجد المتشدقين يدعون المثقفين والمبدعين لتحمل مسؤولياتهم وتمويل الفعل الثقافي!

 

في بلادنا العربية لم نجد كاتباً يحيا في إبداعه، فها هو نجيب محفوظ وهو أهم من هاري بورتر بآلاف المرات، لم يستطع أن يحيا من إبداعه، وبقي إبداعه ينشر ويسرق، وهو ينظر باستغراب لما يجري، ولولا الوظيفة التي التزمها حتى تقاعده ما استطاع أن يحيا، وهذا ما جعله يعمل في السينما والسيناريو، يصنع السيناريوهات لروايات وحكايات ليست له في الأصل، وحين جاءته نوبل في أواخر حياته جاء من يدينه ويرفضه، وكان الوقت في الأساس قد تجاوزه، فلم يتمكن محفوظ لأسبابه الصحية أن يتسلم جائزته، فاستلمتها ابنته نيابة عنه، وهو في مصر جلس يتلقى طعنات بسكين من واحد متطرف أراد إنهاء سيرة الإبداع، ترى لو كان نجيب محفوظ في مجتمع آخر يستثمر في الثقافة، ألم يعش عيشة الأباطرة والرغد من روايات عديدة من دون التزام الوظيفة والأعمال الإدارية؟!

 

ونزار قباني وحنا مينة وعبد السلام العجيلي وغسان كنفاني وغيرهم كثير عاشوا بأنشطتهم ومشاركاتهم ووظائفهم، ولم يعيشوا من إبداعهم، فنزار كان موظفاً في الخارجية إلى أمد محدد، وعبد السلام العجيلي كان موظفاً في عيادته، إضافة لمهامه السياسية، وعمر أبو ريشة كان موظفاً، وغسان كنفاني كان صحفياً موظفاً، وربما جاء بعضهم ومن مرتزقي ثقافة السلطة لينتقص جهد هؤلاء ومنجزهم!!

 

بقيت ساعة سلفادور دالي أسطورة، وبقي فاتح مدرس يرسم ويحمل نفسه إلى مكانه دون توقف حتى رحل، وبقي أستاذاً وموظفاً، وإلياس زيات لم تشفع له كل أيقوناته وبقي يحمل أوراقه ويجوب الأماكن، ومن منكم رأى ناظم الجعفري الفنان الرائد الذي لا يدانى، وهو يجوب شوارع دمشق، وغازي الخالدي أبو الود بقي موظفاً حتى رحيله في منظمة الطلائع يدير المكتب الفني، والذين كلفوه أنفسهم كانوا ينتقدون مباشرته ولوحاته، ويكبرون غيره من الفنانين، متناسين أن هذا المبدع الذي أنجز لوحات لا تنسى عن مجزرة «بحر البقر» و«الخدامة» و«ورد لبابا» هو نفسه الذي دفعه عدم الاستثمار في الإبداع إلى العمل الوظيفي ليكمل حياته بطريقة ما.

 

أعرف عدداً من المبدعين، والتقيت كثيرين منهم عاشوا التسكع وشظف العيش، ولكن حين رحلوا جاءت جهات لتستثمر في النتاج الذي تركوه، ليكون بمبالغ خيالية، بينما كان المبدع يعجز عن زجاجة ماء صحيّ! لؤي كيالي وبأي طريقة غادر حياتنا، هل يستطيع واحد منا أن يقدر أثمان لوحاته اليوم في المزادات العالمية؟ وحين رحل فإن ما أسهم في رحيله كان غياب نظرة الاستثمار في الثقافة! وفاتح المدرس اليوم لوحاته في أعلى مكانة، ومع أن فاتح استمتع بإبداعه وعاش، إلا أنني أتحدث عن الاستثمار والترويج والصالات المحلية والعالمية.

 

شهدت أنواعاً من الاستثمار المختلف، فقد زرت عدداً من مسؤولي الدرجة الثانية والثالثة في الثقافة وفي بيوتهم، فرأيت لوحات نادرة لديهم، وهم لم يشتروها، وإنما سلبوها أو سرقوها في أثناء عملهم، لأنه ما من واحد يعرف قيمة الأشياء المركونة في الظل.. وإلى اليوم أظن أن كنوزاً من اللوحات موجودة في الأقبية وقابلة للسرقة تحت مسمى التلف والظروف في التخزين.. فأين الاستثمار في الإبداع، وربما جاء من يدعو هذا المبدع أن يهدي الجهات الثقافية لوحات إسهاماً منه وكأنه أغنى من هذه الجهة تحت أي ظرف أو مسمى!

 

أما الاستثمار في الكتاب فهو جرح، وقد رأيت عبد الغني العطري قامة الثقافة والصحافة، وهو يدور لإنجاز كتبه بنفسه، وتابعت كثيرين سواه، ومشيت رحلتهم في محاولات ناجحة قياساً لغيري في طباعة نتاجي الذي كنت أنجزه، ولكن ما يدمي النفس أن كل ما يتم طبعه من أعلى قمة ثقافية وأدبية إلى أقل مستوى لا يمكن أن يعود بتكاليفه على المؤلف، فما بالك أن يحيا منه؟!

 

الفعل الثقافي بحاجة إلى كرم من الدولة ومؤسساتها، ولا يكون بالاعتماد على إسهام المبدعين وتقشفهم، ولا يمكن للثقافة أن تنمو وتزدهر في أرض بخيلة في العطاء، من حيث العوائد، ومن حيث الشكل اللائق، ومن حيث المضمون..

 

الثقافة مربحة في بناء الأوطان والإنسان والمجتمع، فهل نعي أن إهمالها يؤدي إلى كوارث على كل صعيد، فالمبدع يرحل أو يموت فقرأ أو ينجز شيئاً لا يستحق، والمجتمع يخسر طاقاته الكبيرة التي تهاجر لتحمل هناك سمة أخرى أو جنسية أخرى، ولو حصل، فإننا نجلس نلوم من فعل ذلك لضعف الانتماء، ولا نقول: لو وزعنا بعض الخير الذي يطير هنا وهناك على هؤلاء المبدعين فما غادروا وما استبدلوا وما تنكروا على قول من يقول.

 

سيرياهوم نيوز1-الوطن

 

x

‎قد يُعجبك أيضاً

«اللغة العربية ونوادر الفصاحة والشعر» … البراعة في اللغة العربية بحاجة لوجود الشغف والموهبة

مصعب أيوب   اللغة العربية مدار اهتمام ونقاش، وتعقد حولها ندوات لتعريف الناس بما تملكه، وفي هذا السياق عقدت ندوة في ثقافي برزة حول اللغة ...