نبيه البرجي
سواء اتفقنا أم اختلفنا مع الرئيس نبيه بري، الرجل قامة لبنانية كبرى مثلما هو ضرورة لبنانية كبرى. معلوماتنا الموثوق بها تؤكد أنه خاض على مدى الأيام القليلة، والساعات القليلة الماضية مفاوضات هائلة، لتنتهي بضمانات أميركية حاسمة بانسحاب “اسرائيل” من الأراضي اللبنانية كافة، وبضمانات عربية حاسمة باعادة اعمار المناطق التي دمرها البرابرة أثناء الحرب الأخيرة. من هنا شق الطريق بالورود أمام العماد جوزاف عون الى القصر الجمهوري.
هو من أعدّ بالكثير من الحنكة، والنظرة البعيدة المدى، السيناريو الذي يقطع الطريق على أولئك الذين احترفوا التأجيج السياسي والتأجيج الطائفي، للظهور بمظهر المنتصر الذي جاء دوره لادارة المرحلة التي تقتضي اسنتفاراً لكل القوى السياسية، وعلى أساس أن هناك فئة لبنانية قد هزمت.هزمت على يد من؟ تناسوا أن 2000 مقاتل كانوا يواجهون، في ظروف عملانية ولوجيستية مستحيلة، 70000 جندي “اسرائيلي” بمئات الطائرات المزودة بالقنابل الأكثر فتكاً، وبمئات الدبابات التي كانت على أهبة الدبابات للانقضاض، وكانت تبدو كما لو أنها قطعان من الوحوش الغرائبية في الميثولوجيات القديمة.
كل اللبنانيين انتصروا بانتخاب العماد جوزف عون، البعيد عن ثقافة الطوائف وعن ثقافة المافيات. لم يأت من ليل التسويات ولا من ليل الصفقات، التي تمثل أقصى حالات الزبائنية السياسية، والتي تجعل من الرئيس جثة عند مدخل القصر. بل من خلال التوافق على شخصه، ليدخل الى القصر برأس مرفوع.لا أحد يتربع على ظهره أو على كتفيه، لا أصهار ولا أبناء ولا أزلام تجربته في قيادة المؤسسة العسكرية، بالقاء الطرابيش والأساليب العثمانية بعيداً عن المدرسة الحربية، وحيث كانت التدخلات، ناهيك بالرشى والوسائط، تحطم المعنى الأخلاقي والوطني للمؤسسة.
كان هناك دور أميركي ودور فرنسي، كما كان هناك دور سعودي ودور قطري.هذه مشكلتنا التي ثابرنا على ارسائها منذ القرن التاسع عشر. لكن نقطة الضوء هنا أن الخيار وقع على شخصية باستطاعتها أن تتولى ادارة الحقبة بكل أهوالها، بالعقل النظيف وبالأيدي النظيفة. هنا قوته، لا بالصلاحيات الدستورية الملتبسة، ولا بالألاعيب البهلوانية التي جعلت المحاصصة، وهي البلاء الأعظم، تتعدى الدستور وتتعدى القوانين، بذهنية دوقيات القرن الثامن عشر في أوروبا، أن لم نقل بذهنيىة اللوياجيرغا القبلية في أفغانستان.
دولة في حال اللادولة. كل شيء خراب. الأهم اعاة اعمار اللبنانيين تزامناً مع اعادة اعمار لبنان، كون اللوثة الطائفية التي استشرت في السنوات الأخيرة، زادت من التصدعات، وكذلك من التشققات السياسية، والى حد طرح الكانتونات الطائفية كضرورة للبقاء، ما رأى فيها الفرنسيون الذين كانوا وراء ولادة لبنان في قصر فرساي في باريس، وفي قصر الصنوبر في بيروت قبوراً للطوائف. أكثر من ذلك دولة هي المقبرة.
ثمة في الفاتيكان من يشاطر الفرنسيين رأيهم، الخوف على المسيحيين الرحيل عن المنطقة، التي وجدوا فيها منذ البدايات الأولى للمسسيحية.
وسط هذا الضجيج الاقليمي والدولي، وحيث لا أحد يستطيع التكهن بالمسار الذي تأخذه التطورات، هل يمكن للرئيس جوزف عون أن يقود الجهاد الأكبر، على أن يختار رئيساً للحكومة لا علاقة له لا بالمنظومة السياسية السائدة، ولا بالأعراف المصطنعة لتبرير المحاصصة، لتكون هناك الدولة القادرة لا الدولة الضائعة عند أبواب القصور أو على أرصفة الأمم.
حتى لا يكون طريق رئيس الجمهورية طريق الجلجلة. لا وزراء له في الحكومة، وحيث ذروة الهرطقة أو الزندقة السياسية، ولكن كيف للبنان الّا يبقى ضحية الصراعات على اختلافها؟ حين لا نكون الدمى الجيوسياسية بيد هذا الطرف أو ذاك، حينذاك تفتح كل الأبواب، التي طالما ظلت موصدة في وجهنا، وتتوقف الهجرة كحلم للأجيال، وهنا الخراب الكبير.
نائب في الجمعية الوطنية الفرنسية قال لنا “أعرف بلدكم الجميل جيدا، لذلك أنا أخشى عليكم من تلك اللحظة التي تعانون فيها من نقص في الخيال”، باعتبار أن الأجيال الجديدة هي التي تصنع الخيال…
سلسلة هائلة من الأزمات أمام الرئيس جوزف عون.لا شك أن ما حصل أمس، وكان “الخميس الكبير”، سيحد الى درجة كبيرة من الاحتقان السياسي والاحتقان الطائفي.في يقيننا أن حزب الله الذي أدلى بصوته لمصلحة الرئيس عون، يدرك مدى دقة الوضع اللبناني ومدى هشاشته، كذلك مدى حاجته الى سنوات من اعادة الهيكلة على كل المستويات، لنشير الى كلام موفد عربي الى بعض النواب، تبريراً لتدخل بلاده حتى في تفاصيل الاستحقاق الرئاسي بـ”أننا هنا لعدم وقوع لبنان من القبضة التركية، بعدما تخلص من القبضة الايرانية”. ولكن، هل هناك فعلاً قبضة عربية؟ بالتأكيد كل الشرق الأوسط في القبضة الأميركية.
وليكن انتخاب الرئيس الرابع عشر للجمهورية في الجلسة الثالثة عشر الخطوة الأولى، لكنها الخطوة النوعية وبكل المعايير، ليس فقط نحو الانتظام الدستوري والسياسي فقط، وانما نحو الانتظام العام في ظل دولة القانون. المهمة شاقة لكنها ليست بالمهمة المستحيلة. أمس عرفنا كيف نختار الطريق الذي يقودنا الى لبنان.هي بداية الطريق…
(اخبار سوريا الوطن 1-الديار)