| مصطفى شلش
تثير الأفعال والخطابات المتزامنة مع وفاة الملكة إليزابيث بعض الأفكار والذكريات والتساؤلات غير المريحة لسكان الإمبراطورية السابقة. فهل بإمكان أي دولة ما بعد الإمبراطورية أن تُحرر نفسها من تاريخها الوحشي المبني على معاناة الآخرين؟ وهل هناك أي اختلاف ذي مغزى بين الإمبراطوريات التي تصف نفسها بالدستورية، واحترام سيادة القانون، والإمبراطوريات غير الليبرالية التي سمحت باستخدام تعسفي للقوة وإفلات ممثليها من العقاب؟
إن «الملكية الدستورية» للإمبراطورية البريطانية ما هي إلا تناقض لفظي. حيث زعمت الحكومة البريطانية أن نشر الحكم الرشيد والحماية بموجب القانون البريطاني كانت أهدافاً صريحة لإمبراطوريتها، ولكن لم يكن هناك أي احترام حقيقي للقانون لدى إمبراطورية غارقة في الاستخدام المنهجي للقوة المفرطة. لم يكن العنف مجرد فعل طارئ للإمبراطورية البريطانية، بل كان مستوطناً في هياكل وأنظمة الحكم البريطاني. فقد تزامن مع توسع شركة الهند الشرقية في الهند في القرن الثامن عشر تنامي القمع الوحشي للشعوب الأصلية وللثورات الرافضة للاستعمار.
يمتلئ سجل الملكية الدستورية منذ عام 1900 بالمجازر، بداية بمعسكرات الاعتقال الجماعي أثناء حرب البوير، وذلك عندما جمع البريطانيون حوالي 200 ألف من الأفارقة السود، بما في ذلك آلاف المدنيين. وشهدت السنوات التي تلت أعمالاً انتقامية وحشية في أيرلندا، عندما قوبلت انتفاضة عيد الفصح عام 1916 بقمع شديد، وقامت القوات البريطانية الملكية التي تعمل بموجب الأحكام العرفية بإعدام 15 إيرلندياً رمياً بالرصاص واحتجزت ما لا يقل عن 1500 مدني. كما تمّت مذبحة في مدينة أمريتسار الهندية في عام 1919، عندما أطلقت القوات البريطانية النار على متظاهرين مدنيين عزل، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 400 وجرح حوالي 1500. وفي الوقت نفسه تقريباً، كان البريطانيون ينتهجون سياسة عنيفة في فلسطين، مما أدى إلى قمع واسع النطاق للثورة العربية في الثلاثينيات. ثم خلال الخمسينيات، استغلت الملكية الدستورية التقدم التقني في المجال العسكري وقامت بسحق انتفاضة ماو ماو في كينيا. وقتلت السلطات الاستعمارية وشوهت وعذبت حوالي 90 ألف كيني ودفعت حوالي 160 ألفاً آخرين إلى معسكرات الاعتقال. شرع القانون الدستوري الملكي للعنف وأسهم في انتشار ممارسات القمع حول الإمبراطورية، فقد تم التخطيط والتنسيق لتنفيذ حملات القمع الوحشية من قبل أجهزة الاستعمار عبر المراقبة والعسكرة والقتل، وساعدت سياسات القهر العنيف على توحيد المستعمرات المتباينة سياسياً وثقافياً. وفي الوقت نفسه، حددت الأحكام العرفية وغيرها من تدابير الطوارئ عنف الإمبراطورية على أنه ضروري وصادقت عليه.
على سبيل المثال، جند اللواء هنري تيودور قدامى المحاربين في حرب البوير لإنشاء قوة شبه عسكرية في إيرلندا في عام 1920 قبل تطبيق خبرته القمعية في فلسطين. وقمع تشارلز تيجارت القومية الهندية بصفته مفوضاً للشرطة في كولكاتا في عشرينيات القرن الماضي قبل أن يشرف على بناء مراكز الشرطة المحصنة والسياج الحدودي أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين. وجلب الجنرال جيرالد تمبلر أساليب التعذيب والقمع من فلسطين إلى مالايا، وطور الكولونيل آرثر يوصنغ تكتيكات الشرطة في مالايا قبل تطبيق ما تعلمه في كينيا. وكانت إيرلندا تتمتع بـ«وضع غامض»، فهي جزء لا يتجزأ من الإمبراطورية باعتبارها مكاناً رسمياً داخل المملكة المتحدة ولكن تصبح خارجها عندما «يتعلق الأمر بمسألة سيادة القانون والحريات المدنية». وتُظهر إيرلندا بمثابة ساحة اختبار للأساليب الجديدة للعنف الإمبراطوري ومكاناً لتطبيق التقنيات الوحشية التي تم تطويرها في أماكن أخرى. كما ظهرت الممارسات القهرية المستخدمة للسيطرة على المستعمرات داخل قلب المملكة المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية لقمع المعارضة، كما هي الحال عندما صدر قانون في عام 1939 الذي يسمح بالاحتجاز من دون محاكمة للمواطنين البريطانيين المتهمين بتهديد الأمن القومي.
الادعاءات التي يقدّمها العديد من الليبراليين -شرقاً وغرباً- بأن الإمبراطورية البريطانية كانت قوة حضارية مكرسة للحكم الرشيد تفتقر إلى أي دليل نظري أو مادي
وأدت الجهود التي بذلتها المملكة المتحدة في فترة ما بعد الحرب لوضع نفسها في النظام الدولي الجديد إلى تحفيز السياسات المحلية الإقصائية بشأن الهجرة والمواطنة. وعكس التشريع البرلماني في عامي 1962 و 1971 تصاعد العنصرية في المجتمع البريطاني وغيّر وضع المواطنة للأشخاص الذين يعيشون في المستعمرات السابقة ذات الغالبية غير البيضاء.
في ظل حُكم الملكة إليزابيث، اجتهدت الحكومات البريطانية لإخفاء سجل العنف الإمبراطوري. وقد شهد عام 2009 واقعة استثنائية عندما قام خمسة كينيين سُجنوا وعُذبوا في أعقاب ثورة ماو ماو برفع قضية ضد الحكومة البريطانية بسبب معاناتهم أثناء الاحتجاز، ليتم الإعلان في عام 2011، بأن مع حصول المستعمرة على الاستقلال في القرن العشرين، فقد تخلصت الحكومة البريطانية من الوثائق التي توضح بالتفصيل أهوال عنف الإمبراطورية في كينيا وفي أجزاء أخرى من المستعمرات السابقة. استغلت الجيوش الاستعمارية البريطانية الأحكام العرفية التي فتحت أبواب القمع العنيف في الإمبراطورية البريطانية. مما أثار نقاشات مكثفة حول حقيقة الدستورية الملكية لبريطانيا. وقد قام منتقدو الإمبراطورية مراراً وتكراراً بالحديث عن ضرورة فرض قيود على كيفية استخدام القانون الذي يُعزز مصالح النخب الاستعمارية ويُطلق العنان للسلطة التعسفية.
قد يكون إنهاء الاستعمار البريطاني قد بدأ عام 1776، مع اندلاع الثورة الأميركية حيث انتشر مع تلك الثورة الفكر المناهض للاستعمار في الوعي التاريخي العالمي. ومع ذلك، حتى في ذروة الإمبريالية البريطانية التي جاءت بعد الثورة لم تكن جهود إنهاء الاستعمار مقتصرة على الثورات الدموية هُنا وهناك. وخلال القرن، أو نحو ذلك، بين بداية الحرب الأفغانية الأولى عام 1839 وظهور قومية غاندي في الثلاثينيات من القرن الماضي، عبّر المُستعمَرون عن عدم رضاهم في جميع أنحاء الإمبراطورية عن الحكم القمعي الاستعماري للتاج البريطاني وفرض إمبريالية رأسمالية على السوق العالمية.
يكشف المزيج مِن سوء الإدارة الإمبريالية والاحتجاج الاستعماري أن تاريخ الإمبراطورية البريطانية ليس صعوداً وهبوطاً، بل قهر ومقاومة. وسواء في آسيا، أو أفريقيا، رفض الأشخاص الخضوع للغزو والحكم الإمبراطوري، وقرروا مواجهة الهجمة الاستعمارية العسكرية والاقتصادية والسياسية. ومع ذلك، فإن القناعات حول «النجاح» العام للإمبريالية البريطانية اليوم لا تزال تشكل ليس فقط تاريخ الإمبراطورية في المكتبات ولكن أيضاً التصورات الشعبية حول ما يمكن أن يكون أنغلو إمبريالية ناجحة.