بقلم أ. د. جمال زهران
لا شك في أنّ الأزمة المفتعلة بشأن التصريحات التي كان قد أدلى بها الإعلامي الكبير جورج قرداحي، قبل توليه المنصب الوزاري (وزير الإعلام اللبناني)، هي بمثابة معركة السيادة الوطنية اللبنانية، الأخيرة. فإما أن يخسر لبنان كلّ ما تبقى لديه من سيادة، وإما أن يتخذ من هذه الأزمة، واقعة بداية لملمة البقايا، واستعادة السيادة الكاملة للدولة اللبنانية وشعبها الذي يتلظى من نار التشرذم والإهانات المتكرّرة من الرجعية العربية وغيرها.
فعلى الرغم من النفي الدائم والتوضيح من جانب الإعلامي جورج قرداحي، من أنّ تصريحاته كانت قبل توليه منصب وزير الإعلام اللبناني، وليست جديدة، لعلهم يفهمون، بدلاً من حالة «الغباء والتغابي»، التي تسيطر عليهم، ومن ثم لعلهم يستدركون الأمر، ويصمتون! إلا أنهم يصرّون على مطلبهم وهو إقالة أو استقالة قرداحي من الوزارة، بصورة فجة وغير مسبوقة!
فماذا قال جورج قرداحي، قبل توليه مسؤولية وزير الإعلام في لبنان؟ لقد قال في برنامج تلفزيوني، شاهدته بعد الواقعة، أنّ حرب اليمن هي حرب عبثية آن لها أن تتوقف، وأن يتوقف استمرار الدم، واستمرار القتل، وأنّ على السعودية ودول الخليج أن توقف عدوانها على اليمن وشعبها، وأنّ من حق الحوثيين أن يقاوموا العدوان على أرضهم وشعبهم. فهم لم يعتدوا على أحد (أرضاً وشعباً)، وليس من حق الآخرين أن يعتدوا عليهم. وهذا هو جوهر ما تحدث به، وبمنتهى الموضوعية، وهو ما قلناه مراراً وتكراراً. إلا أنّ المعتدي (السعودية والإمارات) يصرّ على استمرار العدوان، واستمرار القتل والتجويع للشعب اليمني المقاوم.
فلو كان هؤلاء «الفجرة» المتعالون على البلاد العربية، بحكم ما يمتلكون من مال، يقظين، ولديهم القدرة على التدخل والتأثير وممارسة النفوذ، لكانوا قد تدخلوا قبل إعلان الحكومة، أي أثناء تشكيلها. حيث كان اسم الإعلامي جورج قرداحي، متداولاً ومحلّ توافق ليكون وزيراً للإعلام، في حكومة توافقية «متراصة»، على حدّ قول قرداحي في تعليقاته الأخيرة.
أما وقد أصبح وزيراً، فهو ملتزم من لحظة القسم بعد القبول، بسياسة الحكومة، واحترام جميع الدول العربية، ولا يملك الخروج عن هذه السياسة، وإلا قدّم استقالته. ومن ثم لا يحق لأيّ طرف خارجي التدخل بطلب إقالة وزير أو استقالته على خلفية تصريحات سابقة على توليه المنصب، وإلا فإنّ هذا تفتيشاً في الأفكار والمواقف السابقة، لتصفية الحسابات بلا مبرّر على الإطلاق!
ولكن بتحري الدقة، نجد أنّ هناك سببين، للموقف السعودي، الذي جرَّ إليه الإمارات وبعض دول الخليج، بشكل قدّم للرأي العام على أنه تعبئة ضدّ لبنان (الدولة والشعب)، لا مبرّر لها ولا ضرورة منها، وهما:
1 ـ الموقف الشجاع من الإعلامي جورج قرداحي، لتأييد سورية المثلث (القائد والجيش والشعب)، وإعلان تأييده بشكل واضح للرئيس السوري المقاوم بشار الأسد، في حربه ضدّ الإرهاب، وفي حربه حفاظاً على الدولة السورية وصون ووحدة أراضيه. وهو الأمر الذي يتعارض مع سياسة السعودية ودول الخليج التي أنفقت المليارات وباعترافهم، من أجل إسقاط بشار ونظامه، وتدمير سورية، وفشلوا في كلّ ما سعوا إليه.
2 ـ الخلافات التي وقعت بين الإعلامي جورج قرداحي، وبين قناة الـ (MBC)، السعودية، والتي بموجبها، رفض قرداحي الاستمرار في تقديم برامجه الجماهيرية الناجحة على شاشة القناة. وقد كان ذلك بسبب آرائه في دعم سورية وقائدها، وطالبوه بالاعتذار حتى يستمرّ، فرفض ذلك، ورفض الاستمرار.
إذن نحن أمام حالة، لها خلفيات، وفيها محاولة استقواء سعودية/ خليجية، وفيها محاولة تصفية الحسابات، ولكن هذه المرة ليست ضدّ شخص يملك قراره الشخصي، إنما ضدّ دولة وشعب ووطن، على خلفية هذا الخلاف أو ذاك. وهي محاولة لتدخل سافر من السعودية وورائها بعض دول الخليج وغيرها، ممن تمتلك عليهم نفوذاً، في الشأن اللبناني الداخلي. ولذلك فإنّ الموقف السعودي يذكرنا بحالة المندوب السامي البريطاني أو الفرنسي وغيرهما، خلال فترة احتلالهم للأقطار العربية، حيث يملكون الأمر والنهي في شؤون هذه الأقطار، وأنّ الحكام مجرد صور كرتونية! فهل بعد التحرر والاستقلال ورحيل الاستعماري المادي، تتجدّد مرحلة استعمار جديدة، ممن يسمون أبناء العمومة؟!
على أية حال، فإنّ السعودية ومن يؤيدها في موقفها المطالب بإقالة واستقالة جورج قرداحي، مطالبة بالاعتذار عن هذا التدخل السافر في الشأن الداخلي لدولة لبنان المستقلة. وقد أصبح موقف الوزير جورج قرداحي (الإعلامي الكبير)، موقف سيادي لا رجعة فيه، ولا استجابة لأي دولة أو سفير أو وزير، تصرّ على التدخل في الشأن اللبناني، لأنّ ذلك انتهاك صارخ لسيادتها وحريتها واستقلالها. وأطالب الرئيس اللبناني (ميشال عون)، ورئيس الحكومة (نجيب الميقاتي)، والبرلمان ورئيسه (نبيه بري)، بالثبات في مواجهة هذا التدخل السافر ورفضه، واستعادة تثبيت السيادة اللبنانية.
وللعلم لم أتشرف بأن التقيت بالإعلامي جورج قرداحي، من قبل، ولكن بعد موقفه الشجاع، أتشرّف بأن التقى به في أول زيارة للبنان قريباً إنْ شاء الله، وفقه الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.(سيرياهوم نيوز-5-11-2021)