- ابراهيم الأمين
- الإثنين 8 تشرين الثاني 2021
ماذا يعني أن يتحوّل وليد البخاري إلى مُعدّ ومُنتج لبرنامج تلفزيوني في لبنان؟ ماذا يعني أن يتولى الرجل اختيار الضيوف، والجمهور أيضاً، في الحلقة الأخيرة من برنامج «صار الوقت» على شاشة الـ «مر. تي. في»، وأن يقرر هو من يمكن تحمّله من جماعة «الرأي الآخر»؟ وماذا يعني أن يقبل ميشال المر أولاً، ومارسيل غانم ثانياً، هذا النوع من الوصاية التي تذكّر بالرقيب الذي رافق بولا يعقوبيان إلى مقابلتها مع سعد الحريري أثناء اعتقاله في السعودية؟ ماذا يعني هذا غير أن الرجل الذي أنفقت بلاده، ولا تزال، على هذه المحطة الكثير، لم تعد تثق بأن هناك من هو قادر على القيام بما تريده السعودية من دون رقابة لصيقة؟
يعكس ذلك مستوى جديداً من التوتر السعودي يخفي رغبة قوية بجرّ لبنان إلى انفجار كبير في مواجهة حزب الله. وما حصل هو ارتكاب لبنانيين فعل الخيانة العظمى بحقّ بلدهم ما يجب معه محاسبتهم.
السعوديون ليسوا وحدهم من يقومون بالعمل القذر. سبقهم إلى ذلك الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون الذين يحاولون التمايز لحماية ما تبقّى من «وهم الدور» في لبنان ويطالبون بتفويض أميركي لا تُقفل أبواب السعودية أمامهم. وآخر الوافدين الجدد، المتطوّع الألماني القذر الذي تقوم سفارته في بيروت، بموافقة الحكومة وإشراف وكالة الاستخبارات الألمانية، بدور علني ضد المقاومة. ووصلت وقاحة المخربين الألمان إلى اعتمادهم سلوكاً علنياً في تمويل «قوى التغيير الثورية» وتنظيم برامج دعم لتقليديين لم تتمكن «الثورة» من الحلول مكانهم، في صيدا وطرابلس وبعض أحياء بيروت.
على أن الجنون يبقى اختصاصاً حصرياً للسعودي الذي يعمل بلا كلل لإراقة الدماء في لبنان كما فعل في كل أرض دخلها، وهدفه:
أولاً، تعزيز موقع «القوات اللبنانية» كرأس حربة في قيادة القوى السياسية التي ستتولى مواجهة حزب الله وحلفائه في كل الساحات، وحصر التمويل الانتخابي بمعراب، ودعوة من يرغب في الانضمام إلى هذه الجبهة للتوجه إلى معراب، مع استثناءات تتعلق بشخصيات تحتاج إليها السعودية فقط في هذه الأيام، وأيضاً مع جوائز ترضية بعد العرض الذي قدّمته «القوات» في الطيونة.
وصل الأمر بالسعوديين إلى إعداد وإنتاج برنامج تلفزيوني واختيار الضيوف والجمهور والأسئلة
ثانياً، مواصلة سياسة العزل لفريق الرئيس سعد الحريري ودفعه مع بقية القيادات السُّنية، وعلى رأسها دار الفتوى، إلى خيار من اثنين: إما الاستقالة من العمل السياسي بصورة تامة وترك الأمور لغيرهم، أو العودة إلى بيت الطاعة والانخراط في تحالف علني مع «القوات اللبنانية»، بما يساعد وليد جنبلاط على الانضمام إلى معركة شاملة هدفها المركزي إطاحة التيار الوطني الحر وإضعاف حلفاء حزب الله في بقية الطوائف.
ثالثاً، العمل على حشد القادرين على القيام بأعمال قذرة في لبنان. وتُظهر مؤشرات أمنية أن الرياض تعمل على خط المقيمين من غير اللبنانيين، من مجموعات بين النازحين السوريين، إلى بعض العشائر العربية، وصولاً إلى المخيمات الفلسطينية المتاخمة لمناطق يتواجد فيها حزب الله.
رابعاً، استئناف النشاط الأمني في أوساط القوى الإسلامية، من اختراق الجماعة الإسلامية التي تتصارع قياداتها نزاعات كبيرة بين من يرغب بالانخراط في المعركة ضد حزب الله، ومن يريد النأي بالنفس والركون إلى مرجعية تركيا، وفريق ثالث يدعو إلى استنقاذ آخر قوى الإخوان المسلمين في المشرق عبر الالتصاق بحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس). كما يشمل النشاط السعودي – الإماراتي المجموعات السلفية المنتشرة في أكثر من منطقة لبنانية، وعودة العمل على عدد من المشايخ الذين يعانون أوضاعاً معيشية صعبة جراء ما يعتبرونه تأخّر دار الفتوى في توفير الحدّ الأدنى من حاجاتهم.
خامساً، العمل – بالتعاون مع الأميركيين وعرب آخرين – على ممارسة ضغوط إضافية على الجيش والقوى والأجهزة الأمنية الرسمية لدفعها إلى سلوك ميداني معيّن، ولو تطلّب الأمر احتكاكاً مباشراً مع حزب الله، وفي أكثر من منطقة، والسعي إلى تسخير بعض هذه الأجهزة لجمع المعلومات عن المقاومة وأنصارها، وتجميع ملفات عن اللبنانيين المقيمين في دول الخليج ممن يُعتقد أنهم يؤيدون المقاومة.
المصريون يتابعون ملف الفلسطينيين ومخابرات رام الله تلعب بالنار والسعودية تريد الدماء بأيّ وسيلة
وقد راجع الإماراتيون بعض حساباتهم جراء نكسات أصابت جهازهم الأمني والدبلوماسي في لبنان، وهم يسعون إلى تنظيم عملهم بطريقة مختلفة عن السعودية. لا يعني ذلك أنهم يرغبون بتغيير سياساتهم، لكنهم يراجعون مع حصل معهم في اليمن والقرن الأفريقي وسوريا والعراق ولبنان، ويسعون من خلال وساطات تُعقد في إيران أو العراق أو سوريا، أو حتى في لبنان، إلى «هدنة»، ولو غير معلنة، مع أنصار الله تجنّب بلادهم ضربات عسكرية ممكنة في أي وقت، وتضعهم خارج جدول أعمال النقد من جانب حزب الله في لبنان أو العراق.
أمّا المصريون الذين عدّلوا في طريقة متابعتهم للملف اللبناني، فبين سُنّة لبنان من يريدهم بديلاً، ولو سياسياً، عن الغياب السعودي. ومنهم من يفكّر بدور مصري يجنّب لبنان، والسُّنة فيه، المطالب المجنونة لحكام آل سعود. والقاهرة التي تتعامل مع الملف اللبناني بحذر شديد، بادرت باتصالات لبنانية شملت حزب الله هذه المرة. وهي تركّز على تعاون مباشر ووثيق بين جهاز المخابرات العامة المصرية ومديرية المخابرات في الجيش اللبناني، المعنية بملف المخيمات والفصائل الفلسطينية. وتتابع سفارة مصر في لبنان العلاقات بين الحكومة اللبنانية والفصائل الفلسطينية، وتنشط على خط المعارضين لحزب الله أيضاً، لكن من دون إطلاق مواقف أو مبادرات تضعها في خانة الخصم المباشر.
على أن اللافت، أخيراً، هو النشاط غير العادي في لبنان لممثلي الأجهزة الأمنية الفلسطينية التابعة لسلطة رام الله (هم في حقيقة الأمر مندوبو قائد المخابرات الفلسطينية ماجد فرج الذي يعمل في خدمة برنامج التنسيق الأمني مع الأميركيين والإسرائيليين داخل فلسطين وخارجها). ولدى هؤلاء برنامج عمل تفصيلي لا يتعلق بالوضع الفلسطيني فقط، بل صاروا مصدر تمويل مجموعات لبنانية تقوم بجمع معلومات لا يُعرف أين تنتهي.
هل يكفي ذلك لجرّ البلاد إلى الفتنة الكبرى؟
بحسب القاموس السعودي، الأمر يتعلق ببرنامج من الضغوط القصوى على لبنان، اقتصادياً ومالياً، حتى ولو اقتضى الأمر منع اللبنانيين من تحويل أي مبلغ إلى لبنان وتخييرهم بين ترك السعودية أو العيش والإنفاق فيها حصراً. ويشمل هذا البرنامج، عملياً، منع أي تعاون اقتصادي مع لبنان من خلال الحكومات أو الصناديق العربية والإسلامية، مع الإشارة إلى أن القيادة السعودية لم تعد تثق بأي جهة لبنانية لصرف أموال تعتبر أن لا طائل منها. ويكرر زوار الديوان الملكي السعودي عبارة «لا تحدّثونا عن لبنان». ويلفت البعض إلى أن المندوب السعودي إلى الجولة الأخيرة من المحادثات السعودية – الإيرانية أبلغ نظيره الإيراني «أننا مستعدّون لبحث أي شيء معكم ما عدا ملف لبنان». وهو كلام يلمسه مخبرو المملكة من السياسيين اللبنانيين الذين يتبلّغون ردوداً مبهمة من مشغّليهم السعوديين، ما يجعلهم أمام خلاصة بأن لبنان ليس على جدول أعمال القيادة السعودية، وأن الاستعداد محصور للاستماع فقط إلى من يقدم، بالدليل العملي، أنه قادر على إيذاء حزب الله.
سعي إلى افتعال جولات عنف وضغوط على الجيش والأجهزة الأمنية وإرغام للحريري وجنبلاط على التحالف مع جعجع
تتعاون السعودية بشكل وثيق مع الأميركيين والأوروبيين، ومع جهات نافذة في المنظومة الحاكمة في لبنان، سياسياً ومالياً واقتصادياً، على تحميل المقاومة مسؤولية الأزمة، ورمي نارها في حضن حزب الله. ومن المرجّح زيادة الضغوط، من خلال سياسات نقدية أكثر استفزازاً للمودعين ولكيفية التعامل مع التحويلات المالية، أو حتى طريقة التفاوض التمهيدي مع صندوق النقد الدولي، وآلية عمل أي اتفاقية دعم تخصّ قطاع الكهرباء في البلاد، وسط فلتان غير مسبوق في الأسواق لناحية غياب أي ضوابط في التسعير وفي نوعية الخدمات المقدّمة، والعمل أكثر على تفريغ لبنان من الكوادر المهنية العالية، وتعزيز فرق العاملين في المنظمات غير الحكومية التي تنخرط في لعبة الدولة الموازية بحجة أن «الدولة مخطوفة»… ليصار، من جديد، إلى رفع شعار «يكفينا مقاومة… بدنا نعيش»، وهو الشعار نفسه الذي رفعه محمود عباس في فلسطين وكل من تعاقب على حكم الأردن ومصر، وكانت النتائج كارثية.
الوجه الآخر للضغوط التي تعمل عليها السعودية بإصرار، ومعها إسرائيل، هو افتعال مواجهات ذات طابع دموي ومحاولة جرّ المقاومة إلى أي نوع من الاشتباك العسكري، كما فعل عملاء للعدو في بلدة شويا ومرتزقة السعودية في خلدة ومجرمو الحرب الأهلية في الطيونة، ومحاولات حثيثة لإحداث اختراقات داخل الجيش ودفعه إلى مواجهات متفرّقة مع المقاومة أو بيئتها في أكثر من مكان، وصولاً إلى دفع مرتزقة من أبناء المخيمات الفلسطينية أو من النازحين السوريين إلى ارتكاب جرائم بهدف تستجلب ردود فعل دموية من جانب المقاومة، وتكرار كل أنواع المواجهات في غالبية المناطق اللبنانية للوصول إلى خلاصة واحدة: حزب الله يقاتل كل اللبنانيين. وهذا هو الهدف المركزي المتمثّل بإسقاط الطابع الوطني عن بندقية المقاومة، وتحويلها إلى مشكلة يطلب الناس التخلّص منها، أو على الأقل مساواتها بأسلحة الزعران المنتشرة في غالبية المناطق.
التحديات التي تواجه لبنان، كله هذه المرة، ليست من النوع الذي يسمح لأحد باعتماد مبدأ النأي بالنفس، والوقوف على تل في انتظار من سيرفع الراية. ولا هي من النوع الذي يسمح حتى بالركون إلى حكمة المقاومة وقدرتها على ضبط النفس، هذا الواقع يفرض على من يعنيه البقاء في هذه البلاد والعيش فيها إلى الأبد، ومن يزعم أنه يدافع عن قبيلته وبقاياها في الأرَضين، أن يفكر قليلاً، وأن يتراجع قليلاً إلى الخلف وينظر إلى المشهد من زوايا أخرى، علّه يستفيق ويواجه، لمرة واحدة، شرور الدب الداشر ورعاته. وتذكّروا، أن من يجري وضعه على المهداف لن يقف مكتوف الأيدي إزاء ما يجري التحضير له. وإذا كان قرار عدم الانجرار إلى حرب أهلية حاسماً ولو كلّف الكثير من التضحيات، فهذا لا يعني أنه لا يمكن – لا بل صار لزاماً – القيام بما يردع ولو على طريقة: ومنهم من يقاد إلى الجنة بسلاسل!
هذه الأرض لنا، وهذه السماء لنا، وهذا الهواء لنا، ومن ضاقت عقولهم بجدران الحقد، فليبحثوا عمّا يناسبهم، هنا، أو بعيداً حيث يعتقدون أن الجنة في انتظارهم.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)