خاطب رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع الشعب السوري من إدلب، عن زيارته التاريخية إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحضور أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي ثبّتت مكانة سوريا المستحقّة في المجتمع الدولي بعد عقود من العزلة التي فرضها النظام البائد، للتأكيد على أن ما حققته الدبلوماسية السورية من إنجاز كبير هو ثمرة كفاح شعب حرّر أرضه بسواعد أبنائه عندما عجز المجتمع الدولي، وأن القيادة التي تسعى جاهدة تعود لتقف مباشرة بين أبناء الشعب على الأرض، جاعلة من الداخل السوري محوراً لأي مشروع وطني.
من قلب حملة “الوفاء لإدلب” التي جمعت يوم أمس تبرعات تزيد على 208 ملايين دولار أمريكي، وفور وصوله من الولايات المتحدة الأمريكية، ألقى الرئيس الشرع خطابه مباشرةً للشعب السوري بدل تسجيل كلمة مصورة، وأكد أن إدلب التي احتضنت أبناء سوريا جميعاً، تستحق أن تكون منطلق الوفاء، وأن ما حققته سوريا من حضور دولي ما كان ليتم لولا صمود السوريين وتضحياتهم، وأن الحل الذي فُرض عسكرياً بدماء السوريين صار اليوم الحل السياسي الذي يقرّ به العالم بأسره. ومن رحم هذا الاعتراف، تُفتح أبواب مسار دبلوماسي مكثّف يهدف إلى رفع العقوبات وإعادة دمج سوريا في المجتمع الدولي؛ استكمالاً للجهود الدبلوماسية المستمرة منذ مطلع العام الجاري، والتي توجت باللقاء الأول بين الرئيس الشرع ونظيره الأمريكي دونالد ترامب منتصف أيار الفائت في العاصمة السعودية الرياض، وتكرر اللقاء خلال حفل الاستقبال الذي أقامه الرئيس الأمريكي على هامش أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وذلك بحضور السيدة ميلانيا ترامب.
لم يستخدم الرئيس الشرع التشبيه المتداول لإدلب بوصفها “سوريا الصغرى” في البعد العاطفي فقط، بل كان ترميزاً لوحدة سوريا وترابها وشعبها، وهو ما حمله خطابه التاريخي في الجمعية العامة.
زيارة الرئيس الشرع إلى الولايات المتحدة لم تكن مجرّد محطة بروتوكولية في روزنامة الأمم المتحدة، بل لحظة تاريخيّة بالنسبة للشعب السوري مشبعة بالعاطفة والرمزية، وهي الزيارة الأولى لرئيس سوري منذ عام 1967، فالعالم بات ينظر إلى دمشق بوصفها جزءاً من الحل في المنطقة، لا جزءاً من الأزمة، وإن الانفتاح الذي تبديه سوريا وتعمل عليه حثيثاً ينبع من الثوابت الوطنية في السيادة ودعم الشعب السوري المتعب من ويلات حرب النظام البائد عليه، ليشرعَ في رحلة التعافي والبناء والتنمية.
أجرى الرئيس الشرع 22 لقاءً واجتماعاً ثنائياً ومتعدد الأطراف في نيويورك، على هامش أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، بينها لقاءات مع الجانب الأمريكي ممثلاً بالرئيس ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو والسيناتور جين شاهين والنائب غريغوري ميكس، وشملت قادة دول عربية وأوروبية ورؤساء منظمات دولية، وسبقها جلسة أقيمت ضمن مؤتمر جامعة “كونكورديا” السنوي حول الأمن والديمقراطية عندما حاور الجنرال ديفيد بتريوس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الرئيس الشرع، في لقاء بدأ بضحكات كسرت المفارقات بين طرفين انتقلا من ميدان الحرب إلى ميدان الحوار، والتأكيد على أن من خاضوا الحرب هم أكثر الناس الذين يعلمون أهميه السلام. وكذلك أجرى الرئيس الشرع حواراً مع الباحث تشارلز ليستر، مدير برنامج سوريا في معهد الشرق الأوسط.
لقاء ثان مع الرئيس ترامب
أحد أبرز محطات هذه الجولة كان لقاء الرئيس أحمد الشرع بنظيره الأمريكي دونالد ترامب خلال حفل الاستقبال الرسمي في الأمم المتحدة. لقاءٌ استند إلى الإعجاب الكبير الذي حمله الرئيس ترامب بالشرع “الرجل القوي” حين التقيا لأول مرة في الرياض منتصف أيار الفائت، وأعلن من العاصمة السعودية الرياض رفع العقوبات عن سوريا ومنحها “فرصة للتنفس”.
في نيويورك، جاء اللقاء الثاني بين الرئيسين ليكرّس هذا المسار، وطوال عشر دقائق بحث الرئيسان رفع العقوبات والعلاقات بين دمشق وواشنطن، وشرح الرئيس ترامب لزوجته السيدة ميلانيا الصعوبات التي عانت منها سوريا حتى تحررت.
كلمة تاريخية من منبر الشرعية الدولية.. النصر من الشعب وثمرته له
خرج خطاب الرئيس أحمد الشرع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين عن نمط البيان السياسي التقليدي، ولاقى احتفاء عربياً وعالمياً، وفي لحظة مفصلية من تاريخ سوريا استهلّ الرئيس الشرع خطابه للعالم بـ”الحكاية السورية” بكونها صراعاً بين الحق والباطل، بين شعب ناضل متشبثاً بكرامته وتطلعاته للحرية ونظام بائد سخّر كل أدوات القتل والقمع الدموية، وهي التعريف السوري الوطني بلسان الرئيس للقضية السورية بوصفها قضية عدالة إنسانية قبل أن تكون نزاعاً سياسياً.
وبعد أن عدّد الرئيس الشرع الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام البائد، أبرز قدرة السوريين على تحويل مأساتهم إلى فرصة للنهوض والبناء، وأن الانتصار الحقيقي في سوريا كان انتصار القيم الإنسانية، انتصار التسامح على الانتقام، وتعزيز ذلك بدولة قانون ومؤسسات تصون العدالة. وأبدى الرئيس الشرع الثقة الكاملة بالحكومة والشعب على إدارة مرحلة ما بعد الحرب، ولذلك كانت الدعوة لرفع العقوبات بشكل كامل، لما سيتبعها من خطط اقتصادية تستند إلى إصلاح القوانين الاستثمارية وجذب الشركات العالمية.
وقال الرئيس الشرع في كلمته التاريخية: لقد انتصرنا لأمهات الشهداء والمفقودين، وانتصرنا لكم جميعاً أيها العالم، انتصرنا لمستقبل أبنائنا وأبنائكم، ومهدنا الطريق لعودة اللاجئين إلى ديارهم، ودمرنا تجارة المخدرات التي كانت تنتقل من بلادنا إلى بلادكم في زمن النظام السابق، وتحولت سوريا بهذا النصر من بلد يصدر الأزمات إلى فرصة تاريخية لإحلال الاستقرار والسلام والازدهار لسوريا وللمنطقة بأسرها.
وأشاد الرئيس الشرع بوعي الشعب السوري عندما أوقف محاولات أطراف في “إثارة النعرات الطائفية والاقتتالات البينية؛ سعياً لمشاريع التقسيم وتمزيق البلاد من جديد”. وتابع الرئيس الشرع: “في ذات السياق لم تهدأ التهديدات الإسرائيلية ضد بلادنا منذ الـ 8 من كانون الأول وإلى اليوم، فالسياسات الإسرائيلية تعمل بشكل يخالف الموقف الدولي الداعم لسوريا وشعبها في محاولة لاستغلال المرحلة الانتقالية، ما يعرض المنطقة إلى الدخول بدوامة صراعات جديدة لا يعلم أحد أين تنتهي، وإزاء ذلك تستخدم سوريا الحوار والدبلوماسية لتجاوز هذه الأزمة وتتعهد بالتزامها باتفاق فض الاشتباك لعام 1974، وتدعو المجتمع الدولي للوقوف إلى جانبها في مواجهة هذه المخاطر واحترام سيادة ووحدة الأراضي السورية”.
وأكد الرئيس الشرع على ركائز السياسة الواضحة منذ لحظة سقوط النظام السابق، ومن بينها الدبلوماسية المتوازنة والاستقرار الأمني والتنمية الاقتصادية، وملء فراغ السلطة والدعوة إلى حوار وطني جامع، والإعلان عن حكومة ذات كفاءات وتعزيز مبدأ التشارك وتأسيس هيئة وطنية للعدالة الانتقالية وأخرى للمفقودين “إنصافاً وعدلاً لمن ظُلم”، والمضي في انتخابات ممثلي الشعب في المجلس التشريعي، وحل جميع التشكيلات السابقة تحت مبدأ حصر السلاح بيد الدولة.
وبعد أن توجه الرئيس الشرع بالشكر والعرفان إلى كل من وقف مع قضية الشعب السوري من الدول العربية والإسلامية والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وخصّ كلاً من تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية، أعلن الرئيس الشرع عن دعم سوريا لأهل غزة وأطفالها ونسائها، ودعا لإيقاف الحرب فوراً، وذلك لأن السوريين “من أكثر الشعوب التي تشعر بحجم معاناة الحرب والدمار”.
حديث الرئيس الشرع عن المأساة الإنسانية في غزة لم يكن ذلك مجرد تضامن عاطفي، بل تأكيد على أن سوريا الجديدة، رغم جراحها، تشدد على الموقف العربي والإقليمي، ولا تتنازل عن المواقف الثابتة المنحازة للعدالة، وذلك يقطع الطريق على التضليل بأن دمشق تساوم على الأرض، ويوضح ويؤكد على عدم المساس بثوابت سوريا الوطنية، ضمن واقعية سياسية توازن بين المبادئ ومتطلبات الأمن والاستقرار.
في هذا الحدث التاريخي الذي أعاد سوريا إلى موقعها الطبيعي كفاعل أساسي في صياغة مستقبل المنطقة، عرض الرئيس الشرع في خطابه “الحكاية السورية” وقدّم للعالم مسيرة سوريا الجديدة، وفيه تأكيد قطعي على وحدة التراب الوطني وتبديد مشاريع التقسيم، والتوازن في الدبلوماسية وتبنّي القيم الأخلاقية في العدالة.
من قاعة الجمعية العامة إلى لقاء الرئيس ترامب وقادة العالم، ومن ثم إلى إدلب، رسمت هذه الجولة معالمَ مرحلة جديدة: سوريا التي طوت صفحة العزلة والاستبداد، وفتحت صفحة الانفتاح والبناء.
اخبار سورية الوطن 2_سانا