يمكن إدراج المسودتين الإيرانيتين اللتين قدّمهما الوفد الإيراني وعمل على تثبيتهما كإطار أساسي حاكم لسياق العملية التفاوضية.
لم يعد التفاؤل الذي يتسرب بين الحين والآخر من أروقة فيينا دليلاً على تقدم مسار المفاوضات النووية بين الجمهورية الإسلامية والقوى الغربية، إذ تتلاحق الجولات التفاوضية تحت عناوين مختلفة، تبدأ من ضرورة الانطلاق من مسودات الجانب الإيراني لرفع الحظر، ولا تنتهي عند المطالب السياسية الإقليمية للقوى الغربية، من دون خروج أي دخان أبيض يدل على إحراز تقدم حقيقي يمكن الركون إليه في افتراض قرب التوصل إلى عودة فعلية لبنود اتفاق نووي معدل.
وإذا كان الثابت في الإعلام الرسمي تبادل الاتهامات بين الطرفين حول عرقلة أو مماطلة أو محاولة التفاف على بنود الاتفاق، بما يوافق المصالح الاستراتيجية لكليهما، فإن غموضاً مقصوداً مبنياً على ما يشبه التوافق بينهما فرض نفسه ضيفاً ثقيلاً على التحليلات الإعلامية التي تحاول أن ترصد أي إشارة، يدلّ على حقيقة الموقف المترنح في فيينا، غير أنّ جملة من الثوابت التي تعكس موقف الطرفين قد تشكل منطلقاً لفهم ما أدت إليه الجولة السابعة من المفاوضات، وما قد يرشح من الجولة الثامنة المرتقبة بعد أيام قليلة.
حين أعلن الجانب الإيراني موعد الجولة السادسة من المفاوضات، تم تظهير الموقف الإيراني منها على أنها ستُخاض تحت عنوان مفاوضات رفع الحظر. وإذا كان هذا العنوان تعبيراً عن موقف واستراتيجية القيادة الإيرانية برئاسة الرئيس إبراهيم رئيسي، التي تترجم الموقف السياسي الَّذي أعلنه منذ خوض حملته الانتخابية، إذ رفض ربط السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية بنتائج الاتفاق النووي أو المفاوضات حوله، فإنَّ لائحة أسماء الفريق المفاوض الذي تم انتدابه إلى فيينا تؤكد هذه الاستراتيجية، فالاطلاع على أسماء الشخصيات المشاركة في جولات التفاوض يبيّن غياب أي شخصية سياسية من الصف الأول، ويفترض رؤية مغايرة لما سبق خلال فترة حكم الرئيس حسن روحاني، إذ كان وزير الخارجية الإيراني في تلك الفترة محمد جواد ظريف حاضراً عند كلِّ تفصيل.
وباستثناء كبير المفاوضين علي باقري كني، صاحب السيرة الذاتية المشبعة بالمسؤوليات السياسية، والذي يشغل منصب المساعد السياسي لوزير الخارجية الإيراني، فإنَّ أعضاء الوفد الآخرين يصنّفون في خانة الاقتصاديين والقانونيين، ما يؤكّد عزم القيادة الإيرانية على تحديد أطر المفاوضات وفق محددات رفع الحظر ومصالح الجمهورية الإسلامية، بعيداً عن أي انغماس في ما يُعتبر مواضيع خارجة عن سياق خطة العمل المشتركة للعام 2015.
وضمن هذا السياق، يمكن إدراج المسودتين الإيرانيتين اللتين قدّمهما الوفد الإيراني وعمل على تثبيتهما كإطار أساسي حاكم لسياق العملية التفاوضية، فجوهر هاتين المسودتين يدلّ على الجانب التقني واللوجستي للوفد المفاوض، وينزع عنه أيّ إمكانية لتوصيف سياسي يعتبره الجانب الغربي ضرورياً لتحقيق ما يعتبره مزايا ضرورية للقبول برفع الحظر.
وفي تحليل الحجّة الإيرانية الداعمة للموقف المتشدد الداعي إلى ضرورة رفع الحظر، والاكتفاء بوفد تقني ذي مهمة محددة تتعلّق بكيفية الوصول إلى هذا الهدف، والتأكد من عدم قدرة الجانب الأميركي على إعادة الحظر إذا انسحب مرة أخرى، يستند الجانب الإيراني إلى أنَّ الاتفاق النووي للعام 2015 تم التصديق عليه في الأمم المتحدة وفق القرار 2231 بتاريخ 20 تموز/يوليو 2015، ولا يجب اعتبار الانسحاب الأميركي منه مؤثراً بما قد يدفع إلى العودة إلى نقطة الصفر التي انطلقت منها المفاوضات في أيلول/تشرين الأول 2013.
وفي مقابل التشديد على ضرورة حصر التفاوض بإشكالية التنسيق بين ربط الالتزام الإيراني ببنود الاتفاق النووي وعملية رفع الحظر من جهة، وإلغاء العقوبات الأميركية عنها من جهة أخرى، تساهلت الجمهورية الإسلامية في بعض الخطوات الإجرائية التي طلبتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إذ تم السماح للأخيرة بتركيب كاميرات مراقبة في منشأة “تسا” في كرج، على أن تبقى تسجيلاتها محجوبة عن الطرفين إلى حين العودة إلى الاتفاق، إضافةً إلى شروط إيرانية تتعلق بتحقيق الوكالة في الأعمال التخريبية التي طالت المنشأة، وإدانة الجهة الفاعلة بشكل صريح.
أما عن هذه الخطوة، فيمكن اعتبارها دلالة على أنَّ الجمهورية الإسلامية ما زالت ملتزمة بسلمية برنامجها النووي، وبالتعاون مع الوكالة الدولية ضمن شروط الالتزام المتبادل بين أطراف الاتفاق، وبما يؤكد أنَّ الهدف الإيراني من التفاوض في فيينا لن يتعدى حدود المصلحة القومية ضمن إطار احترام مبادئ القانون الدولي.
وفي مقابل هذا الموقف الواضح، وفق رؤية القيادة الإيرانية ورئيسها، تبرز في المقلب الآخر رؤية مختلفة، إذ يستند الجانب الأميركي في عملية التفاوض، عبر الثلاثي الأوروبي، إلى فلسفة مختلفة من حيث الشكل والمضمون عما عرضناه سابقاً.
وإضافةً إلى اليقين الأميركي بعدم جدوى العودة إلى خطة العمل المشتركة للعام 2015، نتيجة عدم فعالية وتوافق بنودها مع التقدم الذي أحرزه البرنامج النووي الإيراني منذ العام 2019، فإنَّ القراءة الأميركية لمسار العلاقات مع الجمهورية الإسلامية لا تتقبَّل فكرة التوازن والندية، إذ إن جوهر الاستراتيجية الأميركية تجاه الجمهورية الإسلامية، في ظل فقدان أي إمكانية لإسقاط نظامها، يقوم على نظرية العصا والجزرة، بمعنى الإبقاء على ما يمكن أن يبتز الجمهورية الإسلامية عند أيّ مفترق، والمحافظة على موقع المسيطر والقادر على فرض الإملاءات وفق نظرية القطب الأوحد المهيمن، وبما يتنافى مع مبادئ الشرعية الدولية والأمن الجماعي. ويمكن للعقوبات الأميركية الأخيرة التي وقعت خلال فترة التفاوض أن تُصنف ضمن هذا المسار.
وبالعودة إلى مسار المفاوضات في جولاتها السادسة والسابعة، يمكن الاستدلال على ما سبق من خلال رفض الدول الغربية والولايات المتحدة خطة الوفد الإيراني، إذ تم في البداية رفض الخطّة الإيرانية المقترحة عبر المسودتين.
وكان لافتاً في هذه الجولة أنَّ الهدف الغربي الرئيسي من هذه المفاوضات لا يتمثّل بالعودة المتوازية إلى الاتفاق النووي ورفع الحظر، إنما يركز على كيفية رسم إطار للتعاطي مع القيادة الجديدة للرئيس إبراهيم رئيسي، بغية تحضير أرضية فاعلة تفتح المجال للتفاوض معه حول مسائل خلافية أخرى. ولذلك، توقفت هذه الجولة، وعادت الوفود الغربية إلى عواصم بلدانها للتشاور.
ولأنَّ الوفد الإيراني أظهر التزاماً بقرار قيادته، ورفض طرح مواضيع أخرى على طاولة البحث، لم تستطع الوفود الغربية تحقيق اختراق يمكّنها من التحكّم في مجريات التفاوض في فيينا، فعادت لتوافق على المسودتين، إذ تيقّنت أنَّها السبيل الوحيد لإبقاء الجانب الإيراني في فيينا.
وإذا كانت نتيجة الجولة السادسة ضمنت استمرار مسار التفاوض وفق الرؤية والبرنامج الإيراني، فإنَّ الجولة السابعة كشفت عمق الهوة ومدى تصلّب الطرفين خلف مواقفهما. وبالتوازي مع توافق الأطراف على استمرار المفاوضات وفق عدة أطر، أبرزها تخطي حالة اللاثقة التي كرَّسها دونالد ترامب خلال فترته الرئاسية، إضافة إلى الاتفاق على تفعيل اللجان الموكلة بصياغة مسودات الاتفاق التنفيذية، فإنَّ الإشكالية التي قد تعرقل الوصول إلى اتفاق قد تكمن في التفاصيل السياسية، إذ إنَّ إصرار الجانب الإيراني على تضمين الاتفاق فترة مراقبة تضمن خلالها احترام الولايات المتحدة لتعهداتها قد يصطدم بمسعى غربي لطرح ملفات أخرى على الطاولة، كالبرنامج الباليستي الإيراني أو علاقات الجمهورية الإسلامية الإقليمية.
وبناءً عليه، تتقارب فرص نجاح الجولة الثامنة وفشلها، إذ إنَّ نجاح الفرق المفاوضة في العبور إلى مرحلة كتابة مسودات مشتركة تصلح كإطار عملي لاتفاق يعيد الطرفين الأميركي والإيراني إلى الالتزام ببنود محدّثة لخطة العمل المشتركة، قد تصطدم بعقبات تتعلق بصعوبة رفع الحظر نتيجة تعقيدات عملية صنع القرار على مستوى المؤسسات الدستورية الأميركية، إضافةً إلى أنَّ الخصومة التاريخية بين الجمهورية الإسلامية والدول الغربية والولايات المتحدة لم تكن نتيجة الجدل حول طبيعة البرنامج النووي الإيراني، إنما تعود إلى فلسفة الإيديولوجيا الإيرانية المتعارضة مع جوهر الفكر الإمبريالي الغربي.
(سيرياهوم نيوز-الميادين٢١-١٢-٢٠٢١)