بديع صنيج
رحل تاركاً لنا ذاكرة شاسعة وأعمالاً درامية سنتحدث عنها طويلاً.. تعالوا نتعرف إلى سيرة حاتم علي وأعماله.
المتتبع لحياة المخرج السوري الراحل حاتم علي وسيرته الإبداعية، سيلحظ مقدار التماهي بينهما، وكأنهما اندغام لدراما استثنائية، مُتطلِّبة، تسعى ما استطاعت لاختراق الحدود، وخلخلة السائد، والارتقاء المستمر، بالاتكاء على فكر لا يهادن، وذهنية إبداعية متوقدة لطالما أخرجت المارد الدرامي من قمقم الخجل الذي لازم مخرج “الفصول الأربعة” طيلة حياته، وجعلته يُلبِّي آمال الناس وتطلُّعهم إلى فرجة مُغايرة، وكأن في ذلك إيفاء للوعد الذي قطعه في مقدمة مجموعته القصصية “ما حدث وما لم يحدث” التي جاء فيها “سأظلّ أبحث عن موضوع كبير يهمّ الجماهير، شيء له علاقة بالتاريخ، ويعكس آمال الناس، ونزوعهم نحو التغيير والتطوير والتثوير”.
الدراما تلبَّست حاتم علي منذ طفولته في قرية “فيق” الجولانية، ونزوحه عنها على كتفي خاله عندما كان في الخامسة، إذ بات ينظر إلى الأشياء من أعلى، ويتفحَّص حركة الزمن وملامح البشر وكيف تزرع خطواتهم مسارات مختلفة. كما حفظ مذاق غياب الأب، بعدما ظنّه الجميع ميِّتاً في غارة إسرائيلية على إحدى نقاط الحرس الشعبي الذي كان من عناصره، ليتبيَّن بعد 3 أشهر أنه حيّ في أحد مشافي دمشق يعاني من حروق النابالم وفاقد لحاسة السمع.
النزوح من الجولان إلى الأردن أولاً، ثم العودة إلى جوبر فالحجر الأسود على أطراف مخيم اليرموك، كان بمنزلة اختبار للأمكنة وسينوغرافيا الطريق وميزانسين الخطوات المتعبة، كل ذلك انغرس في لا وعي حاتم علي، ونما في خياله، الذي تعزَّز بقراءته القصص المصورة وألغاز المغامرين الخمسة والشياطين الثلاثة عشر في مدارس وكالة الغوث للّاجئين الفلسطينيين التي درس فيها، ثم شغفه بروايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وغسان كنفاني والتي استعارها من مكتبة على باب مخيم اليرموك، وبعدها نهمه في كتب التراث العربي ضمن مكتبة صديقه موسى.
كل ذلك دفعه للتوجُّه إلى الكتابة، وأولى تجاربه فيها كانت تحويل مقاطع من سيرة حمزة البهلوان إلى مسرحيات كي يُخرِجها موسى بتمثيل مجموعة من الأصدقاء، لكن غياب أحدهم عن دور البطولة، دفع حاتم كونه يحفظ النص عن ظهر قلب ليحلّ مكانه، وحينها اختبر للمرة الأولى كيف تلاشى خجله وكسر عزلته التي يفرضها طبعه، وهو ما سيستمر عليه طيلة حياته، خجولاً على الصعيد الشخصي، مقداماً على المستوى الإبداعي.
هكذا بدأ يُجرِّب في الكتابة عبر مجموعة قصصية بعنوان “موت مدرس التاريخ العجوز” 1988، ومسرحيّة في العام نفسه شارك فيها زيناتي قدسيّة بكتابة ثلاث مسرحيات فلسطينية بعنوان “الحصار”، وبعدها بست سنوات أصدر “ما حدث وما لم يحدث”، وفي جميعها واظب على تغيير بؤر السرد، والاتكاء على المفارقات الساخرة في حياة الناس اليومية، وتقديم نهايات مفاجئة، وأحياناً اقتربت حبكاته من حبكات القصص البوليسية، إلى جانب الرمزية لعرض بعض أفكاره.
كان من الواضح تأثره بأساليب الكتّاب الذين أحبهم مثل أنطون تشيخوف وغسان كنفاني، وفي هذه الفترة أصبح عضواً في فرقة قدسية المسرحية، وأيضاً تأثر بأسلوبه في الأداء التمثيلي القائم على تصوير الإحساس من خلال اللفظ نفسه، والاستخدام الصوتي المبالغ فيه من أجل إيصال شحنة الانفعال إلى المُشاهد، لكنه ما إن انتسب إلى “المعهد العالي للفنون المسرحية” في قسم النقد ثم قسم التمثيل، بعد سنتين من الدراسة في قسم علم الاجتماع والفلسفة، حتى أدرك بمساعدة الأستاذ التونسي محمد إدريس ضرورة الافتراق عن إرث مرحلة الهواية، والتخلُّص من آثار التقليد بغية إعادة اكتشاف الذات الإبداعية، ومن ثم التأسيس للمُغايرة ورسم ملامح البصمة الخاصة التي ستستمر في كل ما أنجزه بعد ذلك كتابةً وتمثيلاً، وبعدها إخراجاً تلفزيونياً وسينمائياً.
ومثلما كانت الساعة الدرامية تمثل نوعاً من أنواع الحرية والفرح الاستثنائي لحاتم الطفل الذي أجبر أهله على بيع نصف منزلهم من أجل شراء تلفزيون، استطاع مخرج “التغريبة الفلسطينية” أن ينقل ذاك الإحساس إلى مشاهدي تجربته الدرامية، وذلك “من خلال الكفاح المستمر لخلق مناخ جيد ضمن الدراما، وفرض شروط قريبة من الإبداع، كي لا يبقى التلفزيون مجافياً للفن” كما يقول.
ولأنه أدرك صعوبة امتلاك خيوط مشروعه والتحكم بها كما يريد، أو إمكانية وضع خطة واضحة لنفسه في ظل الظروف المختلفة المسيطرة، فإنه لجأ إلى كلمة “لا”، معداً إياها مفتـاحاً سـحرياً يــستطيع مــن خلالــه أن يحــدد اتجــاه عمله. إذ كان يرى أن “الأعمــال الــتي يرفــضها المخرج، ترسم ملامح تجربته، بقدر الأعمال التي ينفّذها”، وهو ما أوصله في النهاية لإثبات أن فـن التلفزيـون، ضمن حدود معينة، بإمكانه أن يكون مثله مثل المسرح والسينما فناً قابلاً للتجريب والبحث.
وبالاعتماد على رغبته في التجديد، استطاع حاتم علي أن يقود الدراما السورية إلى منعطفات جديدة، سواء في أعماله الاجتماعية التي خلَّص فيها المسلسل من الثرثرة وسطوة الكلام على حساب الصورة، أو في مسلسلاته التاريخية التي شكَّلت ردَّاً قاصماً على ما تمت تسميته خطأً بالفانتازيا التاريخية، وكان في كلتا الحالتين يستند إلى سيناريوهات لكتاب يشاركونه الرؤية ذاتها، وتمنحه نصوصهم القدرة على الاستخراج الجمالي وإعادة قراءة الورق بشكل مغاير من أجل الوصول إلى تبسيط التمثيل ومفردات المشهد بشكل عام، بغية ترسيخ ملامح الواقعية في الدراما بشخصياتها المكونة من لحم ودم، وأفكارها الراهنة ولو كانت تتحدث عن زمن مضى.
ومن تلك الانعطافات التي حققها مخرج “أحلام كبيرة” ولا يستطيع أحد نكرانها مسلسل “الزيـر سـالم” (تأليف ممدوح عدوان) الذي خلص فيه السيرة الشعبية لأبي ليلى المهلهل من فوائضها ومبالغاتها، جاعلاً من التاريخ لحظة واقعية بامتياز، ومن البطل خطَّاءً وبإمكانه أن يضعف كجميع البشر. وأيضاً ما صنعه في ثلاثية الأندلس من كتابة وليد سيف وأعــاد فيهــا قراءة التاريخ، وتخليصه من النبرة الرسميـة وما يحيطها من قداسة.
هذا ينطبق أيضاً على “التغريبـة الفلـسطينية“، بعدما نجح في الابتعاد عن الشرك الدعائي والطابع التعبوي الذي لازم معظم الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية درامياً، وصوّرت الفلسطيني كمارد تحصره في العمل الفدائي المقاوم، لتأتي التغريبة كملحمة تلفزيونية تقدم الفلسطينيين بشراً حقيقيين بأحلامهم وآلامهم ونقاط ضعفهم، رادّةً الفلسطيني إلى آدميته وإنسانيته في انكساراته وهزائمه وأيضاً موته، بعيداً من الكليشيهات والمبالغات المرتبطة بالفلسطيني “السوبرمان”.
واستمرت نبرة حاتم علي المغايرة ورؤيته وأسلوبه الخاص في أعمال “الملك فاروق” في تلك القراءة المعاصرة لما آلت إليه الثورات العسكرية ذات الطابع الوطني من فشل ذريع، وهو ما فتح باب الجدل السياسي والاجتماعي والتاريخي واسعاً، وأيضاً عبر مسلسل “عمر” الذي شكَّل فتحاً درامياً بتصوير الصحابي والخليفة الثاني وتجسيده، متجاوزاً كل فتاوى المنع والتحريم، إلى جانب تقديم هذه الشخصية المؤثرة في التاريخ الإسلامي كإنسان، بتناقضاته وحنكته الإداريّة وولائه وتقشُّفه، وكذلك بأخطائه.
ولا ننسى ما قدمه حاتم علي في أعماله الاجتماعية من جرأة لم يسبقها إليه أحد، ومن ذلك مسلسل “قلم حمرة” الذي كتبته يم مشهدي، وفيه زخم فكري وجمالي يدافع عن حرية المرأة في كل المجالات السياسية والاجتماعية، وأيضاً في التعاطي مع جسدها ورغباتها، وفي هذا العمل تطرح للمرة الأولى قضية المساكنة لدى الأنثى السورية، كما كان المسلسل العربي الأول الذي يسلط الضوء على حقوق المثليين.
هذه الأعمال وغيرها أبرزت الممثلين أمام كاميرا مخرج “الفصول الأربعة” بتسامٍ إنساني مُبهِج، من خلال الاشتغال على طريقة عملهم وقراءتهم للشخصية، والتي هي بالأساس جزء من القراءة الإخراجية، إضافة إلى محاولة الابتعاد عن الحلول الجاهزة في الأداء والاتكاء على ثقافة الممثل في أنسنة الشخصية والارتقاء بها في كل مواقفها والمنعطفات الدرامية التي تواجهها وعلاقتها بالشريك التمثيلي، لتأتي فلسفة حاتم علي في التقاط ذلك عبر لقطات وزوايا تصوير كثيفة بمعناها ودلالاتها بما يخدم المشهد والعمل ككل.
وهو ما يبرز أيضاً في أفلامه السينمائية التي بدأها من فيلم “2000” الذي تدور أحداثه داخل مصعد فندق في دمشق خلال ليلة رأس السنة التي ستنقل العالم إلى قرن جديد، واعتمد فيه على ممثلي وفنيي مسلسل “الزير سالم”، ثم فيلم روائي قصير بعنوان “شغف” (2005)، وبعده الفيلم الروائي الطويل “العشَّاق” (2005) بالاعتماد على مسلسل «أحلام كبيرة»، ثم “سيلينا” (2009) الذي يعدّ أول فيلم غنائي في تاريخ السينما السورية، لمنصور الرحباني، وفيلم “الليل الطويل” من تأليف هيثم حقّي، الذي يروي قصة 4 سوريين من سجناء الرأي قضوا 20 عاماً في المعتقل، ولا تحمل لهم العودة إلى الحياة كثيراً من المسرّة، فالدنيا تغيرت والنفوس أيضاً، ولن يسهل التعايش حتى مع أبناء اعتادوا غياب أبيهم، لكنه ينقذهم من الحيرة والاختلاف بموته وحيداً، بمجرد بلوغه بيته القديم.
“الأحوال في العالم العربي التي تبعث على الأسى والتشاؤم” كما قال حاتم علي، أوقفت عدة مشاريع سينمائية له، منها “موزاييك” المأخوذ عن رواية فوّاز حدّاد ومن تأليف حاتم بالشراكة مع زوجته دلع الرحبي وأسامة محمّد. ومشروع فيلم “الولد” من تأليف بلال فضل. وقبل ذلك، مشروع فيلم “الزير سالم” كتابة حاتم علي وزياد عدوان. ليكون كل ما عمل عليه هذا المخرج المتألق هو دراما فوق دراما قبل أن يخطفه الموت في إحدى غرف فنادق القاهرة، تاركاً لنا ذاكرة شاسعة وأعمالاً درامية سنتحدث عنها طويلاً.
سيرياهوم نيوز-الميادين1