د. سلمان ريا
لا يمكن النظر إلى الحادثة الأمنية التي شهدتها منطقة تدمر، وما رافقها من مقتل عنصرين أميركيين ومترجم، بوصفها واقعة معزولة أو حدثًا أمنيًا طارئًا يمكن احتواؤه بخطاب تقني أو إجراءات ظرفية. ففي سوريا ما بعد سقوط النظام، لم تعد الحوادث الأمنية تقع على هامش السياسة، بل في صلبها، ولا تُقرأ بمعزل عن لعبة استخبارية مفتوحة تُدار على الأرض السورية بأدوات جديدة، وقواعد اشتباك مختلفة عمّا كان سائدًا سابقًا.
الروايات التي ترددت حول الجهة المنفذة — بين توصيفها كفعل نفذته شخصية متشددة داخل أحد تشكيلات “الأمن العام”، أو كعملية تحمل بصمة تنظيمية مرتبطة بـ“داعش” — ليست تفصيلًا ثانويًا. الغموض هنا ليس عارضًا، بل وظيفيّ، ويخدم أكثر من مسار استخباري في آن واحد. في المنهج الاستخباري، لا يُطرح السؤال فقط: من أطلق النار؟ بل: من يستفيد من ترك الإجابة معلّقة؟
منذ سقوط النظام، دخلت سوريا مرحلة سيولة أمنية وسياسية غير مسبوقة. تفككت البُنى السلطوية القديمة، لكن البدائل لم تكتمل بعد، ما فتح فراغات متعددة استغلتها بقايا تنظيمات متطرفة، وفواعل محلية مسلحة بمرجعيات دينية أو أيديولوجية، إلى جانب أجهزة استخبارات إقليمية ودولية تعيد اختبار أدواتها القديمة تحت عناوين جديدة.
في هذا السياق، تكتسب تدمر حساسية مضاعفة. فهي ليست عقدة جغرافية بين البادية والوسط السوري فحسب، بل عقدة استخبارية بامتياز. أي حادث أمني فيها يتجاوز دلالته المحلية، ويوجّه رسائل مباشرة إلى واشنطن، وإلى شركائها المحليين، وإلى القوى الإقليمية التي تراقب المشهد السوري بوصفه مساحة مفتوحة لإعادة التموضع.
مقتل أميركيين في هذا التوقيت يضع الوجود الأميركي أمام مفترق طرق. فالولايات المتحدة، التي سعت في المرحلة الأخيرة إلى إدارة حضور منخفض الكلفة، قائم على الشراكات المحلية والانتشار المحدود، تجد نفسها أمام سؤال استراتيجي متجدد: هل ما زالت سياسة “الانخراط الأدنى” قابلة للاستمرار في بيئة تتكاثر فيها الفواعل المنفلتة وتتشابك فيها الولاءات؟
هنا يتقاطع الحدث مع العلاقة المعقدة بين واشنطن و“قسد”. فالشراكة التي بُنيت أساسًا على محاربة “داعش” تفقد تدريجيًا وضوحها السياسي مع تغيّر السياق السوري. ومع كل حادث أمني من هذا النوع، تتزايد داخل دوائر القرار الأميركي الأصوات المطالِبة بإعادة التقييم: هل الشركاء المحليون قادرون فعليًا على ضبط البيئات المحيطة؟ أم أن الاعتماد عليهم بات يحمّل واشنطن كلفة أمنية وسياسية متنامية؟
أما قاعدة التنف، فتعود إلى الواجهة ليس فقط كموقع عسكري، بل كرمز لاستراتيجية أميركية أوسع، تقوم على التحكم بالعُقد الجغرافية ومنع تشكّل توازنات إقليمية غير مرغوبة. أي تصعيد أمني في البادية يعيد طرح سؤال دور التنف: هل تبقى نقطة ردع ثابتة، أم تتحول تدريجيًا إلى عبء سياسي في مرحلة تميل فيها واشنطن إلى تقليص حضورها المباشر وإعادة توزيع نفوذها؟
من زاوية أخرى، لا يمكن فصل الحادثة عن محاولات إعادة إنتاج “فزاعة داعش” بصيغ مختلفة. فالتنظيم، سواء بوصفه كيانًا فعليًا أو أداة وظيفية، لا يزال حاضرًا في الحسابات الاستخبارية. أحيانًا يُستدعى لتبرير تدخل، وأحيانًا لتبرير بقاء، وأحيانًا لخلط الأوراق عندما تبدأ مسارات سياسية لا تخدم جميع اللاعبين.
غير أن الخطر الأعمق لا يكمن في التنظيم بحد ذاته، بل في تديين السلاح خارج أي إطار وطني جامع. فعندما تتداخل المرجعيات الدينية مع الأجهزة الأمنية دون ضوابط مؤسسية واضحة، تتحول الدولة الناشئة إلى بنية هشّة قابلة للاختراق من الداخل، وتغدو الحوادث الفردية شرارات محتملة لصراعات أوسع.
الحادثة الأخيرة تبرز البادية السورية كساحة مفتوحة لتوازن القوى الدولية والإقليمية. روسيا، التي ترى في البادية امتدادًا استراتيجيًا للنفوذ السوري، تسعى لتعزيز التنسيق مع الفواعل المحليين للحفاظ على استقرار نسبي في المناطق التي تسيطر عليها. وفي المقابل، تحاول الولايات المتحدة عبر قاعدة التنف ضبط هذا الامتداد ومنع أي توازنات غير مرغوبة، معتمدة على الشراكة مع “قسد” وشركاء محليين آخرين. أما القوى الإقليمية، مثل إيران وتركيا، فتتابع عن كثب، مستغلة أي تصعيد لإعادة ترتيب نفوذها أو الضغط على اللاعبين الرئيسيين. أي حادثة في البادية يمكن أن تغيّر خرائط النفوذ بسرعة، ما يجعل المنطقة نقطة محورية في لعبة التوازن الدولي والإقليمي.
في المدى القريب والمتوسط، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات مرجّحة: تشديد أمني أميركي مؤقت، عبر إعادة تموضع محدود وضغط أكبر على الشركاء المحليين، من دون تغيير جذري في الاستراتيجية العامة؛ استثمار استخباري للحادثة لإعادة ترتيب خرائط النفوذ، سواء عبر تعزيز أدوار قائمة أو إعادة تفعيل أوراق مجمّدة في البادية؛ واتساع هامش التدخل غير المباشر لقوى إقليمية ترى في السيولة السورية فرصة لتوسيع نفوذها تحت عناوين مكافحة الإرهاب أو حماية الاستقرار.
في جميع الأحوال، تبدو سوريا مقبلة على مرحلة يُعاد فيها تعريف معنى “الاستقرار”. لم يعد الاستقرار مرادفًا لغياب المعارك، بل للقدرة على ضبط السلاح، وتحييد الدين عن الأجهزة، وبناء شراكات وطنية شفافة لا تُدار في الغرف الاستخبارية المغلقة.
حادثة تدمر ليست نهاية فصل، بل بداية اختبار جديد: إما أن تُقرأ كإنذار مبكر لتصحيح المسار، أو تُستثمر كحلقة إضافية في لعبة الأمم على الأرض السورية. والفارق بين الخيارين هذه المرة، لن تحدده العواصم وحدها، بل قدرة السوريين أنفسهم على استنهاض إرادتهم الوطنية، وفرض منطق الدولة على منطق الظل، وصياغة مستقبلهم خارج حسابات الوكالة والتوظيف.

(موقع “اخبار سوريا الوطن”)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
