راوية زاهر:
(كي لا تبقى وحيداً).. رواية من يوميات المقتلة السورية، بنفَس الشهيد (نزار باشقة) وبتوثيق الكاتب حسن حميد حتى تبصر النور بعد أن أغمض الظلام عيني صاحبه في صحراء تدمر.. وهي الرواية الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وتدور حول شاب عشريني؛ حفظ رفاقه ويومياتهم من الاندثار، عاشوا وتعايشوا مع الموت والفقد والحزن، مع طعم الصبر والتآخي، وفوق رمال الصحراء اجتمعت الجغرافيا السورية بكلّ أطيافها، غنى البدوي نواف الجاسم مندل، عزف الكردي حمو على آلة البزق، زرع ابن درعا رمال تدمر (شاهين رابوبة) بالخضار والحياة، والحلبي محمد سعد الدين، والنصراني الملازم أول نعمان جنورة، وضليع اللغة الانكليزية تيسير المعراوي.. وعباس بدر سيد النكتة والفكاهة.. التقوا جميعاً على الصبر والمحبة واقتسام اللقمة والدمعة ولملمة الأجساد التي طالتها يد الغدر والوحشية.. وكثيرون منهم وغيرهم جمعتهم وحشة الصحراء ومحارس الليالي وفحيح الأفاعي.. (فوزي برهومة).. الأقرب إلى روح (نزار باشقة)، و(لودفيك الأرمني) الذي سحبه طيف الحبيبة فحمله إلى عدوه فمثلوا بجثته دون رحمة، وهو من أوصى (نزار باشقة) بعد بكاء مرير لتوثيق حزنه على مجازر أهله الأرمن في حلب وقرى اللاذقية وكسب على سطور وريقاته التي طالها غبار الصحراء..
ففي مكان قصي وكأنه مسلوخ عن العالم؛ اجتمع هؤلاء الشباب، جمعهم الحب والتآخي وعشق الوطن، وإيمانهم بالحياة، والنصر.. صنعوا الأفخاخ لأفاعي الصحراء، وصوبوا القذائف لشذاذ الآفاق.. ودّعوا العديد من رفاقهم الذين حالت الحرب دون حمل جثامينهم إلى أحضان أحبتهم.. وحفروا لهم قبوراً وشواهد تحمل أسماءهم ريثما يقدر الله لهم بأهلهم لقاء أبديّاً أخيراً.
رواية بأربعمئة وعشر صفحات.. إذا ما أُنصفت يمكن وصفها بالملحمة، خطّ سطورها جنديّ دمشقي التحق بخدمة العلم، فلحقت به الحرب وعضّت على يومياته بالنواجذ والأضراس.. كانت طلائع خدمته في صحراء تدمر، بلياليها الباردة وأفاعيها الصفراء، بحرقة نهاراتها وجنون صفير الخوف في عتمة لياليها.. هناك في ليل الصحراء حيث لا أبواب لها، ولا نوافذ، لا سقف ولا أرضية، لا جدران ولا دروب ولا غدران ولا ناس.. ليلها هو كائن الغموض الذي لا يملّ الغموض.
عن العنوان:
(كي لاتبقى وحيداً)؛ هي آخر عبارة سطّرها (نزار باشقة) على يومياته.. عندما خطّ (رشدان ديب) رسالته إلى (نزار باشقة) المصاب، وأخبره عن تحرير تدمر ونقل جثامين: نعيم رجوان، شاهين رابوبة، محمد سعد الدين، لودوفيك أرمينيان، تيسير المعراوي، إلى ذويهم ورائحتهم مسك.. والوحيد الذي بقي وحيداً في صحراء تدمر هو (نواف الجاسم)… الذي كان ينتظر الوصول إلى مشارف الدير..
هو من غنى لهم مندل:
“مندل ياكريم الغربي مندل
مندل لودلا عناقيدو مندل
جانا شويقي تالي الليل مندل
جانا والساعة تلمع بيدو..”
فنادى رشدان ديب نزار باشقة الجريح شد حيلك والحق بنا كي لا تبقى وحيداً.. يا أخي كي لا نبقى وحيدين.. فآخر عبارة خُطت في الكتاب دفعت من لملم هذه الأوراق لجعل عتبة الكتاب مزينة بهذا العنوان الحامل للدال والمدلول والعاصف في عمق كل هذا الضّباب..
عن الزمان:
مئة يوم في الصّحراء من عام ٢٠١٦م.. فقدٌ وحرب، وموت وحكايات الحب والعشق التي تنير سواد الصحراء وتخفف وطأة قسوتها.. عن لحظات الضعف التي جمعت الجنود بحبيباتهم فاستحالت إلى نقاط قوة تشحذ النفوس وتحفّز الهمم.. فالحبّ وحده من جعل للصحراء طرحة العروس، ولقلوب الأمهات دبيباً فوق جِمار الرمل.. فكيف يمكننا أن ننسى شخصيات هذه الرواية التي تناثرت قصصها عقود لؤلؤ على مسمع زنوبيا وأعمدة ورمال ومعابد تدمر، وحبيبات وثق العاشقون أسماءهن بحبر القلوب: ذهبية وسعاد وتغريد وعبطة ونارة وبديعة، وسلوى ونورا وسعاد وسمية ولمى ورانيا.. كيف ننسى قرى شواقة والبادعة وحوران، كيف ننسى أسرار جنود جعلتهم الحرب يبوحون بكل أسرارهم لقناعةٍ بأنهم راحلون.. وأنّ ليل الصحراء هو الغطاء الذي لفّ جسد الجنود، ولولا الحديث عن العشيقات والأمهات والأحلام والموت والحياة والبطولة والنصر لدمرهم ليل الصحراء البارد المخيف بجرابي عه وأفاعيه ومفقوديه..
تنوّع الحوار في الرواية وقد عبّر عن روح الفريق والتآخي الجاد بين الجنود.. وحالة الدعابة التي ربطت (عباس بدر) صاحب السخرية الدائمة و(غانم هنود) الحالم العاشق لربوع قريته وهدوئها.
عن الوصف:
الوصف لم يكن ترفاً لغوياً بقدر ما هو نقل لمشاهد حيةٍ في عمق الصحراء، سواء مشاهد الأفاعي أو مشاهد السيارات المفخخة، ومشاهد الثأر التي أدت لأسر ثمانية إرهابيين بلا لغة ولا جنسية ولا لون انتقاماً لروح شاهين رابوبة.
الرواية نقلت بالتوازي أخبار البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وأخبار القهر التي كانت تصل للجنود من ديار ذويهم، من خطف واغتصاب وتدمير للهوية والإنسانية.
استشهد (نزار باشقة) برصاص جرثومي متأثراً بجراحه.. رحل وترك ملحمة بخط يده تحكي قصة رفاق مع الجوع والتشويش، والموت الساكن تحت وسائدهم…
لروحك ولأرواح جميع الشهداء السلام.. السلام.
أخبار سورية الوطن ١_تشرين