في (آب) 2022، وقّع الرئيس الأمريكي جو بايدن “قانون الرقائق والعلوم” CHIPS and Science Act بهدف تعزيز قدرات الولايات المتحدة في الرقائق الإلكترونية المتطورة.
وتم بموجبه تخصيص مبلغ 280 مليار دولار أمريكي، كاستثمار لتعزيز البحث المحلي، وتصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة على مدى 10 سنوات.
وتبعه هذا العام على غراره حليفه السياسي، الاتحاد الأوروبي، الذي صوّت وبأغلبية ساحقة، على التصويت لمصلحة مشروع قانون (الرقاقات) الأوروبي، وذلك في 18 نيسان من عام 2023، والتي تم بموجبه أيضاً تخصيص 43 مليار يورو، لأجل البحث العلمي والتطوير في هذا المجال.
وكانت هذه القوانين الاقتصادية الجديدة، بمنزلة معاهدات غير رسمية بين الحلفاء التجاريين، فقد أعلنت وبشكل غير مباشر عن بداية الحرب الاقتصادية الباردة، وقد دخلت في هذه الحرب نخبة العالم من البلدان الصناعية المتقدمة والشركات الاقتصادية العملاقة، وتم استخدام أكثر مختبرات العالم تقدماً وحداثة، وفي هذا الصراع تم إصدار أكثر القوانين الدولية تأثيراً اليوم.
فالقطب الغربي الذي يستند في كل تقدمه العلمي والتقني على هذه الصناعة، قد منعها عن كل البلدان الصغيرة أو البلدان النامية، التي لا تتوافق مع اتجاهاتها السياسية، مستندة في ذلك على المعاهدات الدولية المختلفة، تحت ذرائع مكافحة الإرهاب ومكافحة التسليح غير المنظم وغيرها، مانعة بذلك أي دولة أخرى من الوصول إلى ما تحتاجه في تحقيق نهضة صناعية مستقلة، وبناءً على ذلك يمكننا أن نطلق على هذه القوانين، تسمية قوانين الاحتكار التكنولوجي.
الأشد تأثيراً
واليوم قد أصبحت صناعة الرقائق، الأشد تأثيراً في العالم، بل إن قيمة ما تستورده الدول الصناعية من هذه الرقائق، قد فاق قيمة ما يتم استيراده من النفط، لقد أصبحت هذه الصناعة العصب الجديد لعصرنا الصناعي، فقد برزت أهميتها في تطوير أجهزة الجوال، والحواسيب كبداية، وتخطت اليوم تلك الأهمية، لتكون عنصراً أساسياً في صناعة الأسلحة والرؤوس الحربية، والطائرات والدبابات، والصناعات الفضائية من رادارات وصواريخ، حتى أنها دخلت أخيراً في حيز صناعة المستقبل، الذكاء الصنعي الـ Artificiel Intelligence، وقد تبع قانون الرئيس بايدن، خلال شهرين فقط، أن أدرجت واشنطن، الشركات الصينية على القائمة السوداء، وفرضت القيود على تصدير الرقائق الإلكترونية نحو بكين أو أي شريك شخصي أو دولي يعمل معها، وبموجب هذه القيود التي فرضها الكونغرس، فقد صار يتوجب على أي شركة طلب تصريح من مكتب المقاطعة للولايات المتحدة حتى تتمكن من تصدير أي منتج يحتوي على تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية نحو الصين وشركائها، وتبعها الاتحاد الأوروبي في فرض هذا الحصار، حيث تعدت القيود المفروضة حدود المقاطعة التجارية، لتدخل حتى ضمن المقاطعة الفردية ليس فقط لرجال الأعمال بل حتى لأصحاب الجنسيات الدولية، حيث أصدرت قرارات تعسفية بتسريح جميع الموظفين الحاملين الجنسية الصينية أو الروسية أو الإيرانية أو الكورية “المعادية”، إضافة إلى إصدار قرار بمنع توظيف أي عامل أو مختص من حملة هذه الجنسيات، ورسم ذلك بشكل واضح حدود الدول الداخلة ضمن هذه الحرب الاقتصادية الباردة، وقد كانت هذه القيود والتصريحات صادرة، بحجة الحفاظ على الأمن القومي، وبناءً على تقديم اتهامات بالتجسس وقرصنة المعلومات، ولكن ما رفع رسمية هذا العداء بشكل علني، كان تصريح مستشار مجلس الأمن القومي، جايك سوليفان، “إن نقاط الاختناق والتحكم في التقنيات الأساسية يحب أن تبقى داخل الحديقة”.
تعدت القيود المفروضة من أمريكا حدود المقاطعة التجارية، لتدخل حتى ضمن المقاطعة الفردية ليس فقط لرجال الأعمال، بل حتى لأصحاب الجنسيات الدولية “المعادية”
الدول المحتكرة
وكان هذا التصريح موجهاً ضد كل من روسيا و الصين وحلفائهما السابق ذكرهم، أما في القطب الآخر فتتزعم الولايات المتحدة الأمريكية، خط الإنتاج العالمي لصناعة الرقائق الإلكترونية، أو الدول المحتكرة لحق إنتاج هذه الصناعة عالمياً وتوزيعها، وهي: هولندا والتي تحتوي على شركة Asmc المحتكرة عالمياً لآلات طباعة الشرائح الإلكترونية، آلات طباعة، lithography، ويضم أيضاً كوريا الجنوبية التي تحتوي على شركة Samsung المحتكرة الأكبر لتجارة (رقاقات) الذواكر في العالم بنسبة.
و كما يضم أيضاً تايوان التي تحتوي على شركة Tsmc التي تقوم بتصنيع 92% في العالم لأنصاف النواقل، وأخيراً للولايات المتحدة الأمريكية التي تحتكر حق التوزيع لهذه المنتجات، من خلال شركتي أبل و Nevedia، ونرى إذاً في هذا الاستعراض التجاري، الدور الكبير التي تلعبه الشركات المتعددة الجنسية على الساحة الدولية، فهذا التحالف الدولي يكاد أن يكون تحالف شركات تجارية لا تحالف دول، ونرى أيضاً، أن معظم أرباح هذه الشركات هي ليست قائمة على الجودة بل هي قائمة على الاحتكار، وإن هذه الشركات المذكورة هي من القوة بحيث تقوم بتحريك القرار السياسي على الساحة الدولية.
أما الصين
فعلى الجبهة القانونية أصدرت بكين، في عام 2022 حزمة من القوانين المحلية، التي تشجع الاستثمار الوطني، حيث قامت بتغييرات في الهيكل الإداري الموجود، واتخذت خطوات قضائية في محاربة الفساد، وعاقبت أفراداً بسبب الكسب غير المشروع والإنفاق المالي و التبذيري.
وعلى الجبهة الاقتصادية هذه القيود بمبدأ المثل، حيث أنها استثمرت قيمة وارداتها من الرقائق الإلكترونية والتي تبلغ 350 مليار دولار سنوياً، وهي ميزانية حرمت منها خزانة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر المورد الأول للصين، وتبعها أيضاً، فرض قيود صارمة على شحن المعادن الثمينة المستخدمة في هذه الصناعة، الغاليوم والجرمانيوم، للخارج مع وذلك في ظل حيازة الصين 80% من إنتاجهما العالمي، ما أدى إلى تصعيد الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، وتسبب في تقليص حجم صادرات مواد التصنيع ضمن العام الجاري، وإلى اضطراب في خط التوريد العالمي التي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية.
إلا أن الضربة الأكبر قد حصلت في شهر آب الفائت والتي قد تعتبر الضربة الحاسمة في هذا الصراع، فعلى المجريات التي تسري على أرض الواقع، وأثناء زيارة وزيرة التجارة الأميركية جينا رايموندو للصين، وكعرض قوي أمام النظير الأمريكي، قامت شركة هواوي عملاق الصناعة الصيني، بالإعلان عن أحدث إصدار من هواتفها الذكية (Mate 60 Pro) المزود بمعالج متطور بدقة 7 (نانومتر) رغم مساعي واشنطن إلى عرقلة حصول بكين على هذه التكنولوجيا فائقة التقدم.
وحتى وأنه عن طريق الشركات المنافسة, فقد خلصت الشركة الكندية Technologies إلى أن هاتف هواوي الجديد يعمل بمعالج Kirin 9000s الصيني الصنع الذي تبلغ سعته 7 (نانو متر)، والذي حسب تصريح الشركة المنافسة نفسها، فهو قادر على تشغيل خدمات الجيل الخامس 5G.
وهو الجيل التي تتربع على عرشه، حالياً الشركات الأمريكية كشركة أبل، بجهازها ال I Phone، ويقف وراء تصنيع هذه الإنجاز العلمي، أكبر شركتين صينيتين وطنيتين، وهي أولاً وطبعاً شركة هواوي وشركة “إس إم إي سي” التي تعد أكبر شركة صينية لتصنيع الرقائق، والتي كانت تُعرف في السابق بقدرتها على تصنيع رقائق لا تتجاوز مستوى الـ 14 نانومتراً، ما يعني أن الصين نجحت بالفعل بالاعتماد على الاقتصاد المحلي بالالتفاف حول العقوبات الاقتصادية.
الصين نجحت بالفعل بالاعتماد على الاقتصاد المحلي بالالتفاف حول العقوبات الاقتصادية
وذلك في هذا الإنجاز الذي تم في خلال هذه الفترة القياسية منذ سن قانون بايدن في شهر آب لعام 2022 وحتى شهر آب في 2023 أي أقل من سنة على العقوبات الأمريكية، ما يظهر عدم تأثر بكين بالمقاطعة الغربية، كما يفتح هذا المعالج الجديد الباب على مصراعيه أمام الحكومة الصينية لتدشين منظومة محلية شاملة لصناعة الرقائق، رغم العقوبات المفروضة عليها، وفي هذه الحال تكون الصين قد حسمت جزءاً كبيراً في هذا الصراع، حيث إن قدرتها على التصنيع المحلي لهذه الشرائح سوف تغرس مرساة العالم التجارية في بحرها.
إذاً نحن اليوم أمام نقطة تحول، فبينما تدخل البلدان الكبرى في هذا السباق التقني، نحو السيطرة على احتكار حق تصنيع الرقائق، فإن أبطال هذه الحرب هي الشركات الكبرى لا الدول، فقد صارت قوة الشركات التجارية، قادرة على تحريك المجتمع الدولي، و ليس بالدخول في معاهدات دولية عن طريق بلدانهم، بل صار عندها الاستقلال الاقتصادي في صنع القوانين الدولية، مستبدلة في ذلك نظام الاتفاقيات الدولية، الذي من مساوئه أن تكتسب التحالفات والمصالح الدولية للأعضاء من دون الوصول إلى حرية في اتخاذ القرار بمعزل عن المجموعة، إذاً ربما نكون بالفعل أمام نظام عالمي جديد أكثر مرونة وعملية وعدالة في توزيع الثروات التقنية، من دون اعتماد الدولة على مصادر ثرواتها الحيوية كالنفط وغيرها، ومن دون اعتمادها على تحالف دولي يحميها، وأيضاً من دون احتكار الثروات والمنتجات عن غيرها من الدول، بل إن هذا النظام العالمي الجديد الذي يأمل المحللون الوصول إليه في الثورة الصناعية القادمة، سيحقق بالمجمل خطوة نوعية في مرحلة وصول دول العالم المعاصر نحو تحقيق نهضة صناعية مستقلة، عادلة ومتناسبة مع ظروف التطوير في كل الدول.
سيرياهوم نيوز 2_تشرين