علي حيدر
لم تخرج الاعتداءات الإسرائيلية أخيراً، بما فيها في البقاع، عن «حرب المعادلات» بين حزب الله وجيش العدو. لكنها محاولة إسرائيلية محسوبة ومضبوطة لإحداث تعديل فيها، من دون التدهور نحو مواجهة واسعة.في المقابل، كان ردّ حزب الله مدروساً أيضاً لمنع العدو من فرض معادلة أحادية. وأُدخلت مستوطنات جديدة ضمن دائرة النار للمرة الأولى، رداً على تصعيد العدو في العمق والأهداف في سياق محاولة إنتاج معادلة ردّ.
تسليم العدو بمعادلات الردع التي أرساها حزب الله والحذر الشديد في محاولات خرقها، أتى بعد محطات وتحولات في وعي مؤسسات القرار السياسي والأمني في كيان العدو، وهو حصيلة سنوات من الصراع و«مغامرات محسوبة» ما كان لمعادلات الردع أن تتشكّل من دونها.
فمنذ أن سلَّم العدو بعجزه عن الحسم العسكري مع حزب الله، وجد نفسه مُلزماً باعتماد سياسة عملياتية أكثر حذراً. وبعد تعاظم قدرات المقاومة إلى مستويات تهدد عمقه الاستراتيجي، بعناصره العسكرية والصناعية ومنشآته، كان محكوماً بقيود يصعب تجاهلها، وأمام اعتبارات تتقدّمها حسابات الكلفة والجدوى.
هذه المعادلات وفّرت مظلة أمنية للبنان في أخطر المراحل التي مرت بها المنطقة، ونجح حزب الله في تثميرها بمواصلة تطوير قدراته استعداداً لمواجهة متغيّرات تنطوي على تهديدات استراتيجية ووجودية. وتجلّت قوة ردع الحزب الاستراتيجية والعملياتية في محطات مفصلية في لبنان والمنطقة، وبلغت مستوى قياسياً عندما فرض على العدو قواعد اشتباك، وثبت حتى الآن، أنه نجح في احتواء وكبح طوفان التداعيات التي توالت بعد طوفان الأقصى في الساحتين الإسرائيلية والإقليمية.
النتيجة المباشرة والتأسيسية التي حقّقها حزب الله في الحرب الحالية أنه فرض على العدو قواعد اشتباك ضمن نطاق جغرافي محدّد، التزم الطرف الآخر بمقتضياتها، وتبلورت في ظلها نتائج تشكل ضغطاً متواصلاً ومتصاعداً على قيادة العدو وجمهور المستوطنين.
في مواجهة هذا التهديد، كانت أمام قادة العدو مروحة خيارات رَاوحت بين الذهاب إلى خيار دراماتيكي (وصولاً إلى الحرب)، أو توسيع نطاق المواجهة العسكرية (من دون حرب)، أو اعتماد سياسة الاحتواء.
منذ الساعات الأولى، درست قيادة العدو استغلال طوفان الأقصى لشنّ حرب مفاجئة على حزب الله. لكنّ هذا الخيار سقط، كما أصبح معلوماً، بسبب مخاوف من تداعياته على الداخل الإسرائيلي وانقسام القيادة الإسرائيلية والموقف الأميركي. واستمر ارتداع العدو عن هذا الخيار طوال المعركة المستمرة منذ نحو ستة أشهر، وانعكس ذلك التزاماً صريحاً بقواعد اشتباك المقاومة.
التداعيات على العمق الإسرائيلي ساهمت أيضاً في استبعاد العدو خيار توسيع نطاق المعركة جغرافياً إلى مديات أوسع مما هي عليه، وانسحب ذلك على حدة النيران ووتيرتها وطبيعة الأهداف. وساهم الأداء العملياتي لحزب الله في توفير الظروف الملائمة لذلك، كبحاً وتأطيراً، إضافة إلى خشية العدو من التدحرج إلى السيناريو الأول الذي استبعده، وحرص الأميركي على تجنب التورط في حرب كبرى لن يبقى بعيداً عنها.
في الموازاة، يدرك قادة العدو أن الاكتفاء بسياسة الاحتواء بدرجاتها الدنيا، يساهم في تعميق مأزق الردع الذي تهشّم نتيجة طوفان الأقصى، وأن التزام خيار الاحتواء يوفّر لحزب الله هامشاً أوسع في رفع مستوى الضغوط الميدانية.
أمام هذه الخيارات، والقيود التي تواجه كلاً منها، عمد العدو إلى الرمي بثقله التكنولوجي والاستخباري والعملياتي، لتعزيز الضغوط الميدانية على حزب الله لثنيه عن مواصلة عملياته وفي الوقت نفسه تجنب التدحرج إلى مواجهة عسكرية كبرى. بعبارة أخرى، استغل العدو مجموعة مزايا تتسم بها هذه المعركة، أهمها أن حزب الله في موقع المبادر ابتداءً، وحرصه على تنفيذ عملياته من خارج القرى، ما يعرّض مجموعاته للكشف، فيما العدو مُحصَّن ويتمتع بتفوق تكنولوجي وجوي… والأهم أن حزب الله حريص على إبقاء نطاق المعركة جغرافياً ضيقاً، علماً أن اتساعها يمنح المقاومة هامشاً أوسع ويوفّر لها حصانة كبرى… لكنه فضّل تقديم التضحيات لتقليص الأضرار على المدنيين.
مع ذلك، لم ينجح العدو في التأثير على إرادة حزب الله وقراره بإسناد غزة، وعلى مواصلة العمليات ضد قوات الاحتلال، رغم التضحيات الكبيرة. فاستنجد بالإدارة الأميركية التي وجّهت رسائل تهويل وتهديد وقدّمت إغراءات، وانتدبت للمهمة مبعوثها عاموس هوكشتين… إلا أن كل المحاولات فشلت بفعل التمسك بثابتة مفادها أنْ لا وقف للعمليات قبل وقف الحرب على غزة، وبعدها يتم الحديث عن الأمور المتصلة بجنوب الليطاني.
نتيجة ذلك، تفاقمت الضغوط الداخلية في كيان العدو، وتحوّلت جبهة لبنان إلى جبهة استنزاف على كلّ المستويات، وفشلت المسارات السياسية والردعية. وبدّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أي رهانات لدى قادة العدو وفي واشنطن، مع إعلانه بأن الجبهة ستبقى مفتوحة مهما طال الوقت إسناداً لغزة.
في ضوء هذه السياقات والقيود، ارتقى العدو إلى مرحلة جديدة لفرض معادلة رد يهدف من خلالها إلى تعزيز الأثمان التي يجبيها من حزب الله، على أمل ردعه وتقويض إرادته على مواصلة العمليات. إلا أنه لجأ إلى هذا الخيار من موقع الرد وليس الخيار الابتدائي، إدراكاً منه لمخاطر التوسيع الابتدائي للمعركة.
في المقابل، من الواضح أن رسائل حزب الله الميدانية والسياسية، أظهرت أيضاً لقيادة العدو فشل رهاناته حتى الآن، وأثبت حزب الله أيضاً أن حرصه على تجنب الحرب، لا يقيّده عن الرد بما يعزز معادلة حماية لبنان وعمق المقاومة، على قاعدة «بتوسّع بنوسّع». ويعني ذلك أن مواصلة العدو هذه السياسة ستُقابل أيضاً بتوسيع مدروس وهادف… في معادلة محكمة تساهم في محاصرة العدو بمراوحة ميدانية ضاغطة عليه من الشمال في أكثر من اتجاه، وتصبّ في نهاية المطاف إسناداً لغزة وتعزيزاً لموقع لبنان والمقاومة في معادلة ما بعد الحرب.
سيرياهوم نيوز٣_الاخبار اللبنانية