| صهيب العتر
كثّفت الصين نشاطها العسكري حول تايوان، عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، للجزيرة التي تَبعُد عن البرّ الرئيسي، في أضيق نقطة من المضيق البحري الذي يفصل بينهما، 130 كلم. وعلى رغم أن الردّ الصيني على الزيارة الأميركية، لم يكن بمستوى التحذيرات التي أطلقها المسؤولون الصينيون، إلّا أن بدء الجيش الصيني مناورات عسكرية أحاط بها تايوان بشكلٍ غير مسبوق في تاريخه، وإِطلاقه لأول مرّةٍ صواريخ باليستية عبرت فوق الجزيرة، وحلّق أحدها فوق عاصمتها تايبيه، كل ذلك مثّلَ ارتقاءً في حرب «المنطقة الرمادية» التي تخوضها الصين ضدّ تايوان، لإرغام الأخيرة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وصولاً إلى إنزالها تحت السيادة الصينية، من دون الاضطرار إلى إخضاعها بالقوة العسكرية، عبر الهجوم الشامل. وتُعدّ تكتيكات «المنطقة الرمادية» التي تعتمدها بكين «فعّالة للغاية»، وفق القائد السابق للجيش التايواني، الأدميرال لي هسي ـــ مينغ. وهي تقوم على تنفيذ المقاتلات الصينية عمليات توغُّلٍ في «منطقة التحديد للدفاع الجوي» (ADIZ) التايوانية، التي تمتدُّ إلى ما بعد المجال الجوّي للجزيرة، إضافةً إلى اختراق السفن الحربية الصينية «خطّ الوسط» الذي يشطرُ المضيق نصفَين، في ما يُشبه حدوداً بحرية غير رسمية، بين تايوان والبرّ الرئيسي.
وفي كلّ مرّةٍ يتوغّل فيها الجيش الصيني في الـ«ADIZ» التايوانية، أو يتجاوز فيها «خطّ الوسط»، يستنفر الجيش التايواني مُقاتليه لاعتراض المقاتلات والقطع البحرية الصينية، وفي بعض الأحيان، يضع منظومات دفاعه الجوّي في حالة التأهّب، ما يُكلّف الخزينة التايوانية مئات ملايين الدولارات سنوياً، ويُبقي المُدافع التايواني «على أعصابه» طوال الوقت. يصفُ قائد الجيش التايواني السابق المشهد كالآتي: «أنت تقول إنها حديقتك، لكن يتّضح أن جاركَ هو الذي يقضي وقتهُ في الحديقة طوال الوقت. من خلال هذا الإجراء، هم يُدلون ببيان أنها حديقتهم، وهذه الحديقة هي على بُعد خطوةٍ واحدةٍ من منزلك». بالنسبة إلى الأدميرال المتقاعد، «الوقت بالتأكيد ليس في صالح تايوان. إنها مسألة وقت بالنسبة إلى الصين لجمع ما يكفي من القوة».
«عقيدة النيْص»
تعمل تايوان بشكل مستمرّ على تعزيز قدراتها العسكرية، في مقابل التطوّر المتسارع في قدرات الجيش الصيني وقوّته النارية. وتعكس القفزة العالية في موازنة الدفاع التايوانية من 10.7 مليارات دولار في عام 2018، إلى 16.9 مليار دولار في العام الجاري، قناعةً لدى أصحاب القرار في تايبيه بأن المواجهة باتت أقرب من أيّ وقت مضى. أنفق حكّام الجزيرة، بالفعل، مليارات الدولارات على شراء المقاتلات الجوّية والمروحيات الهجومية والفرقاطات والمدمّرات والغوّاصات والزوارق السريعة والألغام البحرية والمَدافع والدبّابات، وهم يواصلون تعزيز وتطوير منظومات الدفاع الجوّي (باتريوت)، ويستثمرون في برنامج الصواريخ الباليستية القادرة على إصابة البرّ الرئيسي. لكن، وعلى رغم الاستمرار في الإنفاق على الأسلحة التقليدية الثقيلة والباهظة الثمن، يدرك الجيش التايواني أنه لن يكون نِدّاً للجيش الصيني في الحجم والقدرات (مليونا عسكريٍ صيني في الخدمة الفعلية مقابل 170 ألف عسكريٍ تايواني)، ولذلك اعتنق الأوّل، عندما كان تحت قيادة الأدميرال لي هسي ـــ مينغ، «عقيدة النيْص»؛ والنيْص هو من القوارض الكبيرة، التي تحمي نفسها بالأشواك الحادّة المزروعة على جسدها.
على طاولة القرار في بكين، خيارات عسكرية عديدة لمضاعفة الضغط على تايبيه
تقوم هذه العقيدة القتالية على مبدأ الحرب غير المتكافئة، وقد سمّاها مينغ «مفهوم الدفاع الشامل». بشكل مُبسّط، على تايوان تحويل نفسها إلى نيْصٍ أمام أيّ هجوم صيني، أي أنها، كما هذا القارض، ليست بحاجة إلى أن تكون أكبر حجماً وأقوى من «مُفترسها»، بل يكفي أن تُشعره بألمٍ يفوق قدرته على الاحتمال، حتى تدفعه بعيداً منها. وعليه، بدلاً من شراء الأسلحة الثقيلة التي يَصعب إخفاؤها وستكون في مرمى الضربة الصينية الأولى، سيكون على الجيش التايواني، وفقاً لـ«عقيدة النيْص»، التركيز على الأسلحة التي تمنح العسكري مرونةً في الحركة والقتال، وتكون قابلةً للإخفاء في الجزيرة – التي تتوافق تضاريسها مع ما تتطلّبه عقيدة الحرب غير المتكافئة – كمضادّات الدروع (جافلين)، وأسلحة الدفاع الجوّي المحمولة على الكتف (ستينغر). ومن هنا، فإن استمرار تايبيه في التركيز على اقتناء الأسلحة الثقيلة، يطرح علامات استفهام حول مدى التزام الجيش التايواني بتلك العقيدة، التي تهدف إلى استنزاف الجيش الصيني، ومنعه من الإطباق على الجزيرة، وإحكام سيطرته عليها.
على طاولة القرار في بكين، خيارات عسكرية عديدة لمضاعفة الضغط على تايبيه، قد تُغنيها عن الهجوم الشامل، وتُجبِر الأخيرة على القبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، علماً أن مجرّد البدء بتفعيل تلك الخيارات قد يدفع تلقائياً إلى مواجهة واسعة بين الجانبَين، لا شيء يضمن بقاءها محصورةً في المضيق التايواني. قد يبدأ الضغط العسكري الصيني بالسيطرة على ماتسو، وهي سلسلة جُزر صغيرة في الشمال الغربي لتايوان، يسكنها 13,500 نسمة، وتَبعد عن البرّ الرئيسي 9 كلم فقط؛ وكذلك، كينمن، وهي مجموعة جُزر في غرب تايوان، يسكنها 140,000 نسمة، وتَبعد عن الصين 6 كلم فقط. وقد يكون الخيار العسكري ما قبل الهجوم الشامل، إطباق الحصار على الجزيرة، عبر تطويقها بالسفن الحربية، وفرض حظرٍ جوّيٍ فوقها، وصولاً إلى قيام الغوّاصات بقطع كابلات الاتصالات، وعزلها كُلّياً عن العالم. أمّا آخر الخيارات وأصعبها، فهو الهجوم الشامل بالقاذفات والمقاتلات والصواريخ، وإنزال مئات آلاف الجنود من البحر وعبر الجوّ، تحت الغطاء الناري، ومواجهة القوات التايوانية داخل الجزيرة، حتى استسلامها.