ضحى مهنا
تقول إحدى الشخصيات في روايتي: «إنَّ المال جميل في الزمن الرديء»، وكانت هذه قد وُلدت وفي فمها ملعقة من ذهب كما يقولون، لكنها افتقدت بوجع أموراً أخرى ما كانت حاضرة مع وفرة المال، فنظرت إليه حينئذ من دون مبالاة، لكنها اعترفت وردَّدت لاحقاً بأن المال جميل في الزمن الرديء، ولا أحسب أن زمناً رديئاً سيمرّ على الإنسان في بلادنا وغيرها أكثر سوءاً من هذا الزمن، حين صار المال حافزاً للإبداع في العلم والفكر والفنون والآداب، كما ادَّعى أحدهم، وما كان المال كذلك فيما مضى من دهور إلا فيما ندر.
العلماء في التاريخ
كم من أخبار حملها لنا التاريخ من علماء ومخترعين ومفكرين وأدباء عاشوا أسوأ الظروف السياسية والمادية، بدءاً من أنبياء السماء وليس انتهاء بأنبياء الأرض، وقدموا للإنسانية كلّها من دون تمييز منفعة تستمتع بها الأرض، ولم ينتظر هؤلاء المبدعون جزاء أو شكوراً، ولم يبدّلوا تبديلاً رغم الإغراء أو الخطر، ولا داعي لأعدد الأسماء، فهي معروفة واللائحة طويلة، أما أن يكون الإبداع قريناً للمال، فلا يزدهر إلا به، ولا ينتشر إلا بإشارته، فهذا أمر يستحق المراجعة، نسمع عن مراكز بحوث مختلفة علمية وفكرية تتظاهر بالاستقلالية، لكنها في الحقيقة ترتبط بسياسة هذه الدولة أو تلك أو بمؤسسة بعينها مثل وزارة الدفاع أو الاستخبارات، وهذه تموّل بحوثاً ومختبرات متهمة بنشر الأوبئة أو بتعقيم النساء أو بنشر معلومات أو إحصاءات مضلّلة تزيد في تشويش كثير من العقول، وثمة بحوث حول الزراعة تحتكرها دول لتجني وحدها الأرباح، وتعيق مشاريع أخرى متصلة، وما هذه المجاعات التي تزداد ضراوة وقهراً سوى نتيجة أو جزء كبير منها لهذه الأبحاث التي يمولها بعض من أغنياء فتقوم حروب مصطنعة لتسيطر بها الدول الغنية على الأرزاق والأعناق والأمثلة كثيرة.
مراكز البحث والعلماء
أما مراكز البحوث التي تتبنَّى أعمال المفكرين والأدباء والفنانين والإعلاميين فليست بريئة في معظمها، وقد فَقَدَ معظم من لجأ إليها الحرية في التعبير حين راحوا يخلطون السمّ بالعسل والحقائق بالأباطيل زوراً وبهتاناً كما طلبت منهم هذه المراكز المشبوهة، وقد صارت معروفة، ولكنهم نالوا مقابل طاعتهم ما وُعدوا به من مال ومجد وشهرة قد لا تدوم، وأما من تأبى ورفض فكان التجاهل في انتظارهم، فسقطوا مكانهم مع كتبهم وأفكارهم بعد تضليل وتشويه إلا من صمد وثبَتَ على موقفه، وبتنا نسمع عن مافيات الأدب ومافيات الفن ومافيات الإعلام إلخ.
الإبداع وتبنيه
لا ينكرنّ أحد أن صاحب اختراع أو إبداع فكري مهما اختلفت أنواعه بحاجة إلى من يتبنَّاه لتنفيذ ما وصل إليه، فقد يكون مُكلفاً باهظاً، وثمة في الدول الكبرى شركات عملاقة، بعد أن صارت معظم الدول تديرها وتحكمها مثل هذه الشركات، يشجع بعضها هذا المبدع وغيره، وتنفذ مشروعه بعد أن تدرس الجدوى الاقتصادية قبل الجدوى الإنسانية، وقد تسرق بعض هذه الشركات المشروع، وحق مبدعه وإنْ وجدت القوانين، فهذه في معظمها وضعت لعالم قوي وغني، فالخديعة والسرقة من صفات المال الجميل كما يدعي أعداؤه، ويضيفون بأنه لا ينام ولا يدع أحداً ينام.
المبدع والتفرغ
جميل وعادل أن يأخذ المبدع إجازة وأجراً مدفوعاً ليتفرغ لعمله، فلا تقاطعه شؤون المعيشة الثقيلة وخاصة في زمن الحرب حين يستظلّ بفيئها الفساد والطمع والظلم والعنف، وهذا الأجر المدفوع مسبقاً للمبدع ينبغي أن يأتي أولاً من الدولة أي دولة بعد أن تتأكد لها الجدوى الحقيقية لهذا الإبداع، ولا أرى اليوم وربما غداً أيَّاً من هذه الدول قادرة على ذلك أو تأبه له، وفي هذا خطأ كبير، وإن احتجت بظروف الحرب القذرة كبلادنا ولا يعفيها هذا العذر، ونحن نسمع عن هدر هنا وهنالك، فماذا يتبقَّى لهذا المبدع إلا أصحاب الشركات والمؤسسات الوطنية أو هكذا يأمل، وفيها مؤمنون صادقون يقدرون العلم والفكر والفن وجدواه في الاستثمار الإنساني الذي لا تقوم البشرية وتتقدَّم إلا به، وقد قال أحدهم إن أردتَ إنساناً حقيقياً مؤثراً فازرع فيه العلم والفضيلة فينمو الوجدان وحينئذ يكون لك المعلم والطبيب والمحامي والبنَّاء والمهندس (وعامل التنظيفات والإعلامي، وهذه من عندي) وهؤلاء هم الناس الحقيقيون المبدعون الأمناء على الحياة، وأما المراكز البحثية الخارجية فتثير الريبة وبئس المال الذي منها يقبض هذا المخترع أو المبدع، فهي أبعد ما تكون عن الحق والخير والجمال معادلة الإنسانية الخالدة، لأنها تضع الشروط على قياس من يمولها إن كانوا من أصحاب السياسة أو الفكر أو الاقتصاد.
وللكتاب والفنانين
وأخصّ بالحديث هنا الكتاب والفنانين.. ولا عجب أن نرى في بعض ما نراه ضحالة في الفكر والفن وتهريجاً ثم سقوطاً تجارياً ليزداد العقل تسطحاً، ولن أتجاهل أعمالاً مهمة ظهرت بإمكانات محلية وطنية، وإن كان الزمن ممعناً في رداءته وماله، وآخرها فيلم لأيمن زيدان وجود سعيد ومن قبله فيلم لعبد اللطيف عبد الحميد، وقد حصدا جوائز عدة في مهرجانات خارجية رغم التضييق على سورية.
إنَّ للعلم والفكر والأدب مكانة سامية ونقية وتأثيراً بالغ الحيوية، لا تبالي بالمال على جماله في هذه الأزمنة اللعينة أو غيرها، من يدري قد يأتي يوم ويكتشف المهتمون الصادقون بالفكر والفن، جدوى هذا الإبداع المنير ويظهرونه بعد تغييب قسري وتجاهل فظّ مفهوم.
هل علينا أن نرسل تحية دافئة إلى ابن رشد وابن المقفع وغيرهم، وقد كانوا يكتبون على ضوء الشمعة أو المصباح، ينحنون بتواضع وإيمان على نصوصهم، ولا ينشدون سوى وعي العقول والقلوب وكانت تداخلهم شكوك من ضرب وحرق وجنون، ولم يبالوا.
ولا نعدم في العصر الحديث أمثال أولئك المبدعين العظام رغم الفقر والخطر والتهديد، وما ذهبوا يتوسلون دار نشر أو مؤسسة لدولة أخرى كبيرة أو صغيرة لتمنَّ عليهم بما حرموا منه على أن يدفعوا الكثير من حريتهم، أنهم حقاً أنبياء الأرض فما طلبوا يوماً، كحال أنبياء السماء، شيئاً لنفوسهم الكبيرة سوى الحقيقة وتكريم الإنسان.
سيرياهوم نيوز1-الوطن