د. بسام الخالد
ذات صباحٍ طرق باب مكتبي رجل في نهاية العقد السادس من عمره، يحمل في يده حقيبة مدرسية صغيرة وفي اليد الأخرى كيساً بلاستيكياً مليئاً بالكتب، رحبت به كالعادة وانتظرت أن يقدم لي موضوعاً لنشره في المجلة التي أعمل مديراً لتحريرها.. لكن الرجل لم يفعل!
بعد فترة وجيزة من المجاملات المعهودة قال: أعتقد أنك لا تعرفني.. أنا الأستاذ فلان.. مدير ثانوية بلدتكم قبل أربعين عاماً، وأعتقد أنك كنت صغيراً ولا تعرفني.
قلت : عذراً منك أستاذي الكريم.. يكفي أنك معلم للأجيال.
قال الرجل : لقد اهتديت إليك من خلال أحد الأصدقاء وأخبرني بأنك قد تساعدني في الترويج لكتابي الذي أصدرته حديثاً..قلت : على الرُّحْبِ والسَّعة.. ولن أقصر في ذلك مطلقاً طالما أن القضية تتعلق بترويج الثقافة، وهذا واجب إنساني تمليه عليّ المهنة.
أخرج الرجل من الكيس كتاباً أنيقاً تتجاوز صفحاته الثلاثمائة صفحة وقدمه لي .. كان عنوان الكتاب لافتاً، وهو يبحث مسألة وطنية تاريخية هامة، وعندما قلبت صفحات الكتاب وجدت أن الكاتب “وهو مدرس لمادة الجغرافية” قد أشبع الموضوع بحثاً ودراسة وتوثيقاً بالصور والإحصائيات والمقارنات، بحسّ الجغرافي الدقيق، وللحقيقة فقد كان الجهد المبذول في تأليف الكتاب وصناعته كبيراً جداً، خاصة أنه صدر عن دار نشر معروفة.
قلت للأستاذ : هذا الكتاب لا يحتاج إلى ترويج؛ لأن مضمونه كاف للتعريف به!
قال: هذا الكلام صحيح من الناحية النظرية.. لكن المؤسف في الأمر أن الكتب لم يعد لها سوق رائجة في أيامنا هذه، وبخاصة بعد طغيان الإنترنت والصحافة الإلكترونية وما يسمونه بمواقع التواصل الاجتماعي، وكلها مفردات غريبة عني ولا أفهم أبجدياتها، وشرح لي الرجل معاناته في تأليف هذا الكتاب الذي جمع صوره خلال رحلاته الجغرافية على مدى ثلاثين عاماً، ثم تطرق للصعوبات التي واجهته حتى تمكن من نشره، والأهم من ذلك إحجام المؤسسات المعنية بالثقافة عن اقتناء الكتب وربط ذلك بخطط الموازنات وعدد الكتب المقتناة سنوياً وليس نوعيتها، وأضاف: لقد أعطتني دار النشر مئتي نسخة من الكتاب تعويضاً عن تعبي فقررت توزيعها بنفسي علني أعوض بعض ما صرفته في تأليف هذا الكتاب!
فجأة نقلتني تداعياتي بعيداً.. إلى عالم فكري آخر في البلدان التي تحترم الثقافة .. حيث تُقدِّمُ بعض دور النشر للكاتب سلفة مادية كبيرة لتأليف كتاب معين، أما حصة المؤلف بعد طباعة الكتاب فتجعل منه مليونيراً، لأن أرباح الكاتب لا تتوقف عند الطبعة الأولى بل يُحسب ربحه عن كل طبعة تقوم دار النشر بطبعها وتوزيعها، ومن المعلوم أن الطبعة الواحدة من كتاب محترم في تلك البلدان تتجاوز مئات الآلاف من النسخ.
أفقت من شرودي على صوت الأستاذ يقول: أنا أعرف ما يدور في خلدك، ولست نادماً على حال كتابي لأني أعرف مرض الانحسار الثقافي في مجتمعاتنا العربية، وسأسوق لك طرفة تلخّص هذا الوضع.
قلت: تفضل.
قال: سأل أحد الصحفيين صاحب مكتبة: ما هي أنواع الكتب التي تعرضها في مكتبتك؟!
قال: “ليلة الدخلة ” و” مصرع الأميرة ديانا” و” قصة الحضارة “.. وعندما سئل عن حجم مبيعات كل كتاب قال: الأول نفدت طبعته الثالثة والثاني تكاد طبعته الثانية أن تنفد والثالث لم أبع منه إلا نسخة واحدة !
وهنا قلت للرجل: ها أنت حسمت الموقف ولا تعليق بعد هذا الحوار!
استأذن الأستاذ الوقور بالانصراف، وقبل مغادرة باب المكتب قال: لي طلب أخير عندك، قلت: تفضل.. قال: أرجو أن تنشئ لي حساباً على الفيسبوك علني أتعلم أبجديات هذا العالم الأزرق!!
(سيرياهوم نيوز ١-خاص)