- عبد الله محي الدين
- الأربعاء 1 أيلول 2021
يمكن النظر إلى كتاب حسن بوكرين «السُبل والمُنى في صناعة الفقر والغنى» (مركز دراسات الوحدة العربية) كمحاولة جدّية لتقديم مقترحات للخروج من حالة التبعيّة والتخلّف في دول العالم عامّة، وفي دول العالم العربي خاصّة. تكمن أهميّة هذا الكتاب (المستند إلى أكثر من 359 مرجعاً) في كونه:
• يُظهِر جوهر النيوليبراليّة من خلال فلسفتها وممارستها في أرض الواقع.
• يتناول في فصوله السبعة الأبعاد الأساسية التي استندت إليها الرأسمالية في صناعة الفقر والغنى على الصعيد العالمي.
• لا يكتفي بمحاججة النيوليبراليين فحسب، بل أيضاً أولئك الذين كانوا من مناهضيها وارتموا في أحضانها تحت مسمّيات وعناوين وذرائع مختلفة.
• لا يكشف عورات الرأسماليّة فقط، إنّما يقترح الحلول للأزمات التي خلقتها.
قدّم للكتاب المفكر والباحث علي القادري؛ الذي يشير إلى أنّ الفكر المهيمن على الدراسات الاقتصاديّة ينطلق، في العادة، من فلسفة وضعيّة تُضفي على نفسها صفة الحياديّة العلميّة والصرامة. ويقول إنّه إذا ما قيّمنا ظروفنا الاقتصاديّة ومدى تفاعل أزماتنا مع هذا الفكر اللاحيادي واللاصارم، لوجدنا أنّ المأساة الماثلة للعيان ليست إلّا نتاجاً له. فـ «نيوكلاسيكيّة» هذا الفكر (أداته الأيديولوجيّة) شكّلت سلاحاً ضدّ التنمية في وطننا العربي كما في العالم أجمع.
ويعتبر القادري أنّ في هذا الزمن الذي جُوّفت فيه العلوم الاقتصاديّة، يأتينا الدكتور حسن بوكرين «ببحثٍ مفعم بالدقة العلميّة الحقيقيّة المتّكئة على قراءات تاريخيّة وفلسفيّة في سبر النظريّة التنمويّة، تؤهّله ليكون كتاباً تدريسيّاً بديلاً للهراء النيوكلاسيكي الذي يُدرّس في جامعاتنا العربيّة».
يستهلّ بوكرين فصله الأول، بدراسة ظهور مؤسّستَين رئيسيّتَين وتطوّرهما: الدولة والسوق. يعتبرهما مركز القوة في المجتمعات الحديثة، خلقهما الإنسان لكنّهما لا يمثّلان أكثر من أدوات يمكن استخدامها من جانب صانعيها لتحقيق أهداف وغايات محدّدة. يشرح كيف برزت الطبيعة الطبقيّة لأصل الدولة باعتبارها تعبّر عن دولة الطبقة الأقوى والأكثر هيمنة اقتصاديّاً، وكيف استولت النيوليبرالية على جهاز الدولة، واستخدمت المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لفرض خياراتها وتحقيق مصالحها.
ويدحض الكتاب الفكرة التي تسعى النيوليبراليّةللترويج لها باعتبار الأسواق حالةً مثاليّة للفرديّة، فيبيّن كيف أنّ حصص الدخل لفئتيْ الـ 10% و1% من السكان الأكثر ثراءً، قد ازدادت، في جميع دول منظمة التعاون والتنمية، على مدى فترة تطبيق النيوليبراليّة بين 1980 و2012.
الديمقراطيّة في الحكومة: قوة صنع السياسة
يرى بوكرين أنّ مفهوم السيادة في المجال السياسي ليس سوى وسيلة لتحقيق المساواة في المجالَين الاقتصادي والاجتماعي، وتحسين الرفاهية العامّة لجميع السكان، وأنّ مسؤوليّة الناس هي التأكد من أنّهم يحصلون، بالفعل، على الحكومة التي يستحقّونها.
يؤكّد المؤلّف أنّ السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة ليست محايدة أيديولوجيّاً، وتمّ تصميمها، في الأصل، للحفاظ على مصالح الطبقة المسيطرة، وأنّ «مجموعة المصالح النيوليبرالية» سيطرت على الحكومة؛ من وول ستريت، ومجمع الأمن العسكري، إلى الأعمال الزراعيّة، والصناعات الاستخراجيّة ومتبرّعي الحملات الانتخابيّة، فهم من ينتخب مجلسَي النواب والشيوخ، ويُعِدّ معظم مشاريع القوانين التي تُعرَض على الكونغرس الأميركي ويوقّعها الرئيس.
ويستشهد بالإجابات التي قدّمها الاقتصادي جوزيف ستيغليتز الحائز جائزة نوبل، إذ يشير إلى أنّ جميع أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي ومعظم أعضاء مجلس النواب هم، فعليّاً، من فئة الـ 1% الأعلى (لدى وصولهم)، ويتمّ الاحتفاظ بهم في السلطة من خلال المال. هؤلاء يعرفون، أنّهم إذا خدموا جيداً نسبة الـ 1% (التي ينتمون إليها)، فسوف يُكافأون لدى مغادرتهم مناصبهم.
ويخلص إلى أنه لا يمكن الخروج من هذه الدوامة من دون اللجوء إلى الديمقراطية المباشرة من خلال عملية يقوم بها المواطنون باتخاذ القرارات جماعياً في ما يتعلق بجميع الأمور التي تهم مجتمعهم سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الوطني.
الثروة الخاصّة والدين العام
يجادل المؤلّف بأنّ السؤال الحقيقي المطروح الآن هو: هل لا نزال نرغب في تجربة اقتصاد السوق والديمقراطيّة البرلمانيّة على مدى قرنَين آخرين، أم يجب البحث عن طرائق بديلة لتنظيم نظامنا الاقتصادي؟ للإجابة عن هذا السؤال المركزي، يقدّم بوكرين اقتراحه لتحسين رفاه جميع أفراد المجتمع، المتمثّل ـــ على خلاف الاعتقاد السائد ـــ في تدخّلٍ أكبر للحكومة. مصلحة القطاع الخاصّ ـــ والمجتمع ككلّ ـــ هي في تطوير قطاعٍ عامّ قوي وقادر، ليس على توفير القانون والنظام فحسب، وإنّما على تأمين الخدمات الاجتماعيّة والسلع العامّة الضروريّة للنمو والازدهار والمساواة.
مسألة أخرى بالغة الأهميّة يتطرّق إليها الكتاب، في هذا الصدد، هي العلاقة بين الثروة الماليّة الخاصة والدين العام، حيث نجد أنّ الزيادة في الدين العامّ تؤدّي منطقيّاً إلى زيادةٍ في الثروة الماليّة الخاصّة. وبالمثل، عندما تقوم الحكومة بجمع الضرائب، يفقد الوكلاء الخاصّون بعضاً من دخلهم، بحيث تسحب، عن طريق الضرائب، جزءاً من النقود من القطاع الخاصّ، ما يؤدّي إلى جعل الحكومة في حالة عجز. من الواضح أنّ القطاع الخاص سيكون أكثر فقراً إذا قررت الحكومة أن لا تكون في حالة عجز عن طريق سحب نقود أكثر مما كانت تضخه في الاقتصاد خلال فترة معينة.
التوظيف الكامل مقابل الندرة
يناقش بوكرين مفهومَي الندرة والتوظيف الكامل، حيث يُعتبَر مفهوم «الندرة» مفتاحاً رئيسيّاً لليبيراليّة المحافظة، لجهة تبرير وتفسير آليات تحديد الأسعار في أسواق البضائع والخدمات والمستويات العالية في أسعار الفائدة وقيمة النقود وتوزيع جميع الموارد، بما يعفيها من إعطاء شرحٍ لمشكلة اللامساواة في توزيع الثروة والدخل، واستخدامها لتبرير كلّ العلل في المجتمع من جوع وسوء تغذية وتشرّد وأُميّة وكلّ مظاهر الفقر الأخرى.
ويشير المؤلّف إلى أنّ «مشكلتنا الاقتصاديّة» تكمن في البطالة لا في التضخّم، ويتوجب على الحكومات أن يكون لديها التزام قانوني لحلّها، وليس فقط التزاماً أخلاقيّاً.
أمّا بالنسبة إلى التوظيف الكامل، فيرى المؤلف أنّ اعتقاد مارتن فيلدشتاين بأنّ الاقتصاد الأميركي في وضعيّة التشغيل الكامل، استناداً إلى ارتفاع الأجور المتسارع، هو اعتقاد زائف. لأنّ وجود 15 مليون شخص على استعدادٍ للعمل لا يعني أنّهم يستطيعون الحصول على وظيفة، إلى جانب 6 ملايين شخص إضافي يعملون بدوامٍ جزئي، لكنّهم يرغبون في العثور على وظيفة بدوام كامل. ومفهوم التوظيف الكامل لم يتمّ تحقيقه، وكان العمل جارياً على الدوام لخفض نسبة البطالة إلى حدٍّ ما، من دون القضاء عليها. ومنذ أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، صار الاتجاه السائد في أسواق العمل الكنديّة والأميركيّة يتجلى بنموٍّ أسرع في التوظيف في المهن ذات الأجور العالية، والمنخفضة مقارنةً بالمهن ذات الأجور المتوسّطة، ما ضاعف من اللامساواة في توزيع الدخل.
يعتبر بوكرين، أنّ التوظيف الكامل ليس أمراً صعب الإنجاز إذا كان جزءاً من برنامج حكومةٍ تتحالف مع الطبقة العاملة، ويرى أنّ الهدف الشامل لاستراتيجيّة التوظيف الكامل لا يمكن أن يكون من خلال اعتبار الدولة الملاذ الأخير في التوظيف، بل من خلال عمليّة تغييرٍ في توزيع الدخل والثروة لمصلحة الطبقة العاملة. ويقترح أن تلجأ الحكومة إلى هذا الخيار من خلال:
* التشجيع على إنشاء المؤسّسات الإنتاجيّة المملوكة من العمال والمساهمة في إنتاج بضائع مفيدة للاقتصاد والمجتمع،
■ احتفاظ الدولة لنفسها بشبكةٍ واسعة من المؤسسات العامّة التي تُعتبَر ركيزة استراتيجيّة التوظيف الكامل، من خلال تركيزها الأساسي على توفير إدارة السلع العامة والخدمات الاجتماعيّة إلى جانب العمل في الصناعات والقطاعات الأخرى.
ويخلص المؤلّف هنا، إلى أنّ الدول الصناعيّة المتقدّمة اختبرت استراتيجيّتَي التدخّل والسوق الحرّة، وتبيّن أنّها ازدهرت في ظلّ تدخّل الدولة وشهدت سنواتها المجيدة، وتراجعت وأنتجت البؤس البشري عندما أصبحت قوى السوق غير مقيّدة.
أما حول الابتكار، الملكيّة، والتقدّم، فيرى المؤلّف أنّ للابتكار تأثيراً كبيراً على التقدّم الاقتصادي. وأنّه ليس وليد شخص واحد، إنّما هو تراكم في المعرفة والبناء على تجارب مَن سبقوا، بمعنى أنّ الأفكار تُبنى اجتماعيّاً ويُعاد تعريفها على مدى فترةٍ زمنيّة طويلة. كما أنّ هذه الاختراعات كانت، على الدوام، بتمويلٍ من الحكومات التي قامت، ودام هذه النوع من التدخّل لقرنَين من الزمن، وتكرّر الأمر أخيراً مع عمليات إنتاج اللقاحات خلال جائحة كوفيد-19. أمّا في ما يتّصل بمسألة الحقوق الفكريّة، فلم تكن مطروحة إلّا في أوائل القرن التاسع عشر، أي مع ظهور أيديولوجيّة السوق الحرّة.
وإذا كان الابتكار هو مفتاح التقدم، ولكي يكون هدفه التقدم والحياة الأفضل لجميع أفراد المجتمع، يجب أن لا يترك لأهواء رواد الأعمال الباحثين عن الربح. بل يجب أن يكون الإنتاج وتوزيع المعرفة أو نشرها مسؤولية اجتماعية ومهمة جماعية يجب أن تقوم بها الدولة ذات السيادة.
يناقش المؤلّف في الفصل السادس موضوع التخلّف الصناعي والتجارة الدوليّة والتمويل، فيرى أنّه على الرغم من أهمية الثورة الصناعيّة واعتبارها لحظة حاسمة في تاريخ أوروبا، غير أنّ التطوّر التكنولوجي اللاحق في المجال العسكري هو الذي مكّن الدول الأوروبيّة، وكان حاسماً في التوسّع الإمبريالي.
ومن جهةٍ أخرى، يعزّز المؤلف وجهة نظره بأهميّة دور الدولة من خلال النموذج الكوري الجنوبي حيث لعبت الدولة الدور الحاسم في عمليّة تحديد أهداف التصنيع وإدراج الأدوات التي سيتمّ استخدامها وتحديد الفترة الزمنيّة اللازمة لتحقيق هذه الأهداف.
أمّا بالنسبة إلى قوة التمويل في فرض نظام التجارة الدوليّة، والمُعبَّر عنه بميزان المدفوعات الذي يشهد دائماً عجزاً في الدول النامية، فشكّلت شروط التجارة الخارجيّة الحجّة المركزيّة لمدرسة التبعيّة، كي تفسِّر أسباب إعاقة محاولات التنمية. وتمّت إعادة تأكيد هذه المسألة، في بداية القرن الحادي والعشرين، من قِبَل دراسة للأمم المتحدة، وهكذا علقت معظم الدول النامية في أزمة الديون السيئة السمعة.
في الفصل الأخير، يتناول المؤلف آثار التصنيع على الأزمة البيئية، فيرى أنه ترتّب على النشاط الصناعي والإنتاج الزراعي واستخراج الموارد من باطن الأرض، اللجوء إلى التكسير الهيدروليكي واستخدام المواد الكيميائيّة، وهذه الآثار يعتبرها رأس المال من الملوّثات الخارجيّة ذات الكلفة على المجتمع، والتي يتوجّب النظر إليها كجزءٍ من الحياة.
كلمة أخيرة. مؤلَّف حسن بوكرين هو، بلا ريب، عمل أكاديمي وبحثي في الدرجة الأولى، لكن يمكن اعتباره عملاً مرجعيّاً لكلّ دارسي الاقتصاد السياسي والتنمية، وللمناضلين العاملين من أجل تطوّر مجتمعاتهم ومساعدتها على الخروج من حالة التبعيّة والتخلّف.
* أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية ــــ معهد العلوم الاجتماعية(سيرياهوم نيوز-الاخبار)