جمال غصن
طلقة رصاص خلال لقاء انتخابي قلمت أذن المرشّح الرئاسي الأميركي دونالد ترامب، وكادت تزيحه من المشهد الانتخابي، والمشهد الدنيوي، إلى الأبد. كان ذلك قبل شهرين. نجا يومها الرئيس الأميركي السابق من محاولة الاغتيال الجسدي، واليوم، وعلى بعد شهرين آخرين من يوم التصويت الرسمي في أطول العمليات الانتخابية في العالم، يواجه ترامب محاولات اغتيال معنوي على عدّة جبهات. فعليّاً، «الحملة الانتخابية» في الولايات المتّحدة لا تنتهي.حملة ترامب للفوز بولاية ثانية بدأت فور انتهاء ولايته الأولى، وتحديداً في السادس من كانون الثاني من عام 2021، عندما اقتحم مناصروه مبنى الكابيتول في العاصمة الأميركية رفضاً لتنصيب جو بايدن رئيساً في «انتخابات مسروقة» حسب زعمهم. الحملة المضادة لترامب انطلقت في الوقت عينه، فالمؤسسة الأميركية (الطبقة الحاكمة والدولة العميقة) لم ترده رئيساً من الأساس. أحد أهم أسباب العملية الانتخابية الطويلة في واشنطن هو تفادي المفاجآت، إذ لا يصل إلى البيت الأبيض إلّا من يراعي معايير وخطاب الطبقة الحاكمة والدولة العميقة المتجذرة في مستنقع واشنطن منذ عقودٍ وعقود. لكنّ ترامب تسلّل خلسة إلى البيت الأبيض، المرّة الأولى لأنّه تبيّن أن ما يجذب الناخب الأميركي، من بعدما غُسِل دماغه عبر السنين، هو الاستعراض التلفزيوني ونفاق السّاسة. وإن كانت غريمة ترامب في رحلته الأولى إلى رأس الحكم، هيلاري كلينتون، قد امتهنت النفاق طوال رحلتها المديدة في السياسة، لكنّها لم تستطع مجاراة ترامب في عالم الاستعراض.
لكنّ هذه المرّة الوضع مغاير، ولا مجال للتسلّل. المعركة مع الحالة الترامبية قائمة على أكثر من جبهة منذ السادس من كانون ومستمرّة إلى ما بعد الانتخابات. سريعاً، نستذكر هذه الجبهات التي فتحت حتى اليوم، من دون الدخول في التفاصيل لأنّ تفاصيلها مملّة، بدليل أنها لم تكن مجدية في إقصاء ترامب.
قضائياً، واجه ترامب قضية تلو أخرى في عدة ولايات من محاولة شراء سكوت نجمة إباحية إلى التآمر في محاولة انقلاب. أدين بأكثر من جرم، بل بأكثر من ثلاثين جرماً، وحتى لو كانوا ألف جرم، الأعداد تخسر أهمّيتها هنا لأنّ معظم سكان العالم لا يثقون بعدالة محاكم الأرض (حتى تلك المتخصصة بالإبادة، أو خاصّةً تلك). لو كان هناك نماذج يُوثق بها تفي بهذا الأمر، لما كانت هناك حاجة للإيمان الغيبي بعدل السماوات، ولكان الضحايا يلجأون إلى الدعاوى بدل الدعاء. فتضحي المحاكمات، وخاصة في الولايات المتحدة، مجرّد استعراضات إعلامية، وترامب ملك ملوك الاستعراض.
إعلاميّاً، تمّ حجب رئيس أميركي سابق من على منصّة «تويتر»، قبل أن تستحوذ عليها مجموعة من أسوأ وأنذل وأوضع القوم بقيادة أحقرهم إيلون ماسك. ترامب أطلق منصته الخاصة التي لحقته إليها جماهيره. وهنا لا بدّ من أخذ العبر من هذه الحادثة، فمن يحجب رئيساً أميركياً يحجب أيّاً كان. هناك مئات الملايين ممّن يجدون أنفسهم مضطرّين إلى التلاعب بلغتهم وتعابيرهم للتحايل على معايير وإجراءات الحجب المؤتمتة أكثر كل يوم. لا مفرّ إلّا بالنزوح الجماعي إلى منصات يملك فيها هؤلاء السيطرة على أدوات الإنتاج. المفهوم ليس جديداً، لكنّه حبّذا لو يطبّق لكسر الحصار على الإعلام والتعبير الذي يضيّق خاصة على كل ما يخصّ المقاومة في فلسطين.
في الإعلام أيضاً، استحدثت غرف إخبارية في الإعلام المهيمن في الولايات المتحدة وحدات للكشف عن الأخبار الكاذبة فقط من أجل الكشف عن أكاذيب دونالد ترامب. بعد كلّ خطاب، يخرج المحلّلون لتفنيد الأكاذيب، وذلك دون جدوى طبعاً، لأن الرجل الذين يحاولون كشف كذبه هو تجسيد للساعة المكسورة التي بالصدفة تصدق مرّتين في اليوم. مع ذلك، فاز قبلاً وقد يفوز مجدّداً. الإعلام المهيمن ذاته هو من علّم سياسيّي واشنطن النفاق على أعلى المستويات. اقرأُوا عناوينهم عمّا يجري عندنا. هؤلاء لا يكذبون لاجتذاب الأصوات، بل يفعلون ذلك لأنهم يؤمنون برسالتهم المنافقة.
اقتربت الانتخابات ولا تزال استطلاعات الرأي غير حاسمة، ففتحت الدولة العميقة جبهة جديدة ضد المرشّح عن الحزب الجمهوري: جمهوريون ضد ترامب! ديك تشيني سوف يقترع لكمالا هاريس «دفاعاً عن الديموقراطية»! أن يتبنّى نائب رئيس غزو العراق ترشيح نائبة رئيس إبادة غزة ليس مفاجئاً. المفاجئ هو حماسة جمهور ديموقراطيّي واشنطن لاستقطاب ديك تشيني وغيره من الجمهوريين إلى معسكرهم، ولا يدركون أنهم هم من كانوا دائماً عند تشيني ولم يأتِ أحد صوبهم. في المقابل، ترامب استقطب آخر أعضاء آل كينيدي الأحياء إلى حملته. قد يكون هناك أفراد آخرون أحياء من آل كينيدي، لكن عدد أعضاء أسرة كينيدي كما عدد الإدانات الجرمية لترامب ليست مهمّة. المهمّ عدد أصوات روبرت كينيدي الذي انسحب من الانتخابات لمصلحة ترامب.
هناك مناظرة تلفزيونية مرتقبة بين ترامب وهاريس غداً، عشية الحادي عشر من أيلول، وتحبس المؤسسة الأميركية أنفاسها لأنها تعلم أن برج مرشّحتها من ورق. لكنّه حتّى لو انهار، فالانتخابات الأميركية قصة إبريق زيت لا تنتهي. لديهم الكثير من الوقت لإعادة «تستيف» الأوراق، وإيجاد طرق أخرى فاشلة لمحاصرة ترامب، أو ربّما ينجحون. لا يهمّ.
سيرياهوم نيوز١_الأخبار