الرئيسية » مجتمع » حقَّ لباريس لقبُ «عاصمة الظلام»

حقَّ لباريس لقبُ «عاصمة الظلام»

عبد المنعم علي عيسى

 

 

لربما كانت الألعاب الأولمبية التي تقام عادة كل أربع سنوات، أحد التفرّعات التي نتجت من الثورة الفرنسية عام 1789. فعند إعلان بيار دو كوبيرتان عن إطلاقها عام 1896، قال إن الهدف منها هو تقريب الشعوب بعضها من بعض وإبعادها عن الحقد وممارسة العنف والظلم والحروب. وكان الظن أن عملاً من ذلك النوع، سوف يكون خطوة على طريق إشباع الحياة البشرية بروح التسامي بين الشعوب والأعراق. ومن الواضح أن ذلك كله مستمدّ من الفضاءات التي اصطنعتها مبادئ الثورة الأربعة عشر الذائعة الصيت، والتي لا تزال كل الثورات والتجارب التي تمرّ بها شعوب الأرض تطمح إلى تحقيقها، أو ما تيسّر منها تبعاً لدرجة التطور التي تمرّ بها تلك المجتمعات المستهدفة. وصحيح أن أساس الشعلة يوناني، لكن إرث باريس 1789 أفسح المجال لإعادة هذه الشعلة التي يجري تناقلها بين مئات اللاعبين على مدار أشهر، والتي لطالما شكّلت رمزاً لانتقال مبادئ وقيم «الأولمبياد» من اليونانيين القدماء إلى «العالم الجديد» الذي باتت باريس تحمل فيه لقب «عاصمة النور».وكان حفل افتتاح «الأولمبياد» بطبعته الـ33، مساء الجمعة الماضي، والذي استمر نحو أربع ساعات فريداً ومبهراً في آن، ولربما جاء أسطورياً إلى درجة طغت فيها المؤثّرات البصرية على الإيحاءات التي أريد لها أن تكون رسائل غربية في اتجاه أصقاع العالم، حتى غدا المشهد وكأنه صراع بين «بربرية الخيال» و«سطوة التكنولوجيا» التي جهد القيّمون على الحفل لإظهارها تمكيناً لقبضة الغرب، والتي لا يمكن مقارعتها. جاء سيل المؤثّرات البصرية متدفّقاً بلا انقطاع، بدءاً من خروج الحفل، لأول مرة، خارج أسوار الملعب، ثم مروراً بمشهد القوارب العائمة على نهر السين والتي سمحت بمشاهد مبهرة أثناء مرورها بمعالم تاريخية في رحلتها التي وصلت إلى نهاية موكب الأمم في تروكاديرو، وأيضاً بمشهد خرّيجات «الأكاديمية الفرنسية»، أرفع المؤسسات الفرنسية، وهنّ يؤدّين التحية للجيش على أنغام نشيد «لا مارسييز»، وصولاً إلى الإتيان بسيلين ديون، المنقطعة عن الغناء منذ سنوات، على رغم مرضها وتحذيرات الأطباء لها، لأداء «أنشودة الحب» من على برج إيفل، بأجر وصل إلى مليوني يورو.

لكن ذلك كله لم يرفع من هيبة فرنسا، ولم يستطع إخفاء انحطاط باريس، والذي يمكن له أن يظهر إذا ما جهد المرء لتفعيل «البصيرة» التي أريد لها أن تذوب بفعل المؤثّرات وعوامل الإبهار. فكل انبهار للبصر يقابله حتماً فقدان للبصيرة، والمزيد من الفعل الأول يمكن أن يؤدي إلى الإصابة بـ«العمى التام»، وفي الآن ذاته يصبح دليلاً قاطعاً على ابتعاد «الحدث الأولمبي» عن المرامي التي قيل إنها في صلب أهدافه. ما أرادته باريس بعيداً عن كل هذه «الهمروجة» التي بدا فيها «المحبّون» منخوري القلب، و«العاشقون» بعيدين عن ممارسة الفعل، هو إظهار التنوّع في نسيجها، الذي هو بضعة من نسيج الغرب، كمحاولة لإخفاء كل هذا «الخواء» الأخلاقي الذي بات سمة أساسية لكلا النسيجين. فالحفل شارك فيه المئات من المتحوّلين جنسياً جنباً إلى جنب مع المشهد الذي جسّد محاكاة ساخرة للعشاء الأخير للسيد المسيح، ما أشار إلى حالة من التخلي التدريجي عن الروابط الأخلاقية والروحية داخل الأسرة الصغيرة (العائلة)، وتلك الكبيرة (الوطن)، لذينك النسيجين.

في مقلب آخر، تقول التقارير إن تكلفة «أولمبياد» باريس ستبلغ 9 مليارات يورو، في الوقت الذي سبق لها، حين تمرّدت على قرار الغرب، أن أعلنت تقديم 33 مليون يورو لوكالة «الأونروا» في نيسان الماضي، وهو الإعلان الذي ظل رهين «الإعلان» فحسب. والمقارنة الفاضحة ما بين الرقمين، تشير من جديد إلى أولوية الإبهار سبيلاً لتأكيد السطوة والتفوق. غُيّبت روسيا، بكل حضارتها وموروثها عن ذلك الحفل المجنون، كنوع من العقاب السياسي الذي يتناقض مع المرامي والأهداف التي أُنشئ «الأولمبياد» لأجلها، كما غاب علم فلسطين عن السارية التي تضم أعلام الدول المشاركة. بل وغابت حتى الالتفاتة إلى معاناة شعب فلسطين. والسؤال الذي يتوجّب علينا أن نجيب عليه، نحن الشعوب الرازحة تحت قبضة هذا الغرب الماضي في مسار يراد منه إبهارنا، هو: كيف لنا أن نصدّق سمو شعلة «الأولمبياد» التي رفعتها باريس مساء 26 تموز في الوقت الذي يحترق فيه شعب بأكمله بنيران هي بضعة من تلك الشعلة؟

أرادت باريس من خلال حفلها «الأسطوري» كما وصفته شبكة «سي إن إن»، أن تكرّس نفسها «عاصمة للنور» بعد 235 عاماً من حملها ذلك اللقب. وما جرى هو أن الفعل كان من القوة بحيث أفضى إلى نوع من العتمة الكافية لكي تحمل لقب «عاصمة الظلام» بدءاً من الآن. والأمطار التي شهدها الحفل، والتي وصفها القيّمون عليه بأنها «بكاء السماء» فرحاً بالحدث الباريسي، لم تكن كذلك، بل كانت «بكاء السماء» على باريس 2024 التي لم تعد تشبه تلك التي كانت عام 1789، على رغم أن ما جرى في العام المذكور لم يكن أكثر من «ومضة» لم تدم لأكثر من عقد، حتى إذا دخلت عقدها الثاني برزت، لدى الذات الفرنسية، من جديد نزعة العودة إلى «المجد الإمبراطوري» المتمثّلة، آنذاك، في وصول نابليون بونابرت إلى سدة السلطة في باريس، والتتمة معروفة.

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“اليونيسيف”: أكثر من 200 طفل قُتلوا في لبنان من جراء العدوان الإسرائيلي منذ نحو شهرين

منظّمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” تعلن استشهاد أكثر من 200 طفل في لبنان من جرّاء العدوان الإسرائيلي منذ نحو شهرين، في وقتٍ “يجري التعامل مع ...