لا تنطلق السياسية الأميركية في هذا السياق من ثوابت شفافة وواضحة، بل تتخذ التصنيف ذريعةً للضغط والابتزاز
أثار كشف “النهار” أمس عن قرار الخارجية الأميركية، القاضي بتعديل الوضع القانوني لبعثة سوريا الدائمة في الأمم المتحدة، جدلاً واسعاً بين السوريين، بحسب تفاوت مواقفهم من الإدارة الجديدة، ومدى تقبّلهم لسياساتها. وقد فجّر هذا الكشف إشارات ودلالات سياسية ترتسم شكوكاً وتساؤلات، رفعت منسوب القلق لدى البعض، ومنسوب الارتياح لدى البعض الآخر.
مفاجأة دالّة
ربما يكون المصطلح المفتاحي الذي احتشدت حوله مواقف الطرفين هو “حكومة غير معترف بها”، والذي يشير إلى التوصيف القانوني الذي تتبناه اليوم الخارجية الأميركية في تعريفها السلطات الانتقالية في سوريا، إثر قرارها حرمان أعضاء البعثة الديبلوماسية السورية من التأشيرات من فئة G1، وخفض مستواها إلى G3، الأمر الذي أثقل كاهل الطرفين في محاولة كل منهما لسحب بساط التفسير في ما يوافق ميوله السياسية أو الطائفية، نظراً إلى صعوبة التمييز بين الاثنين، في ظل استقطاب حادّ تشهده سوريا.

وشكّل الكشف عن القرار الأميركي مفاجأة من العيار الثقيل لعدم وجود مقدمات دلّت على إمكان اتخاذه في هذا التوقيت. ولعلّ صدور القرار عن الخارجية الأميركية، بالتنسيق مع إدارة الهجرة، هو ما جعله يتسم بطابع أمني – سياسي مشترك. لكن، في خارج الولايات المتحدة، وتحديداً بخصوص العلاقة الأميركية – السورية، واضح أن الغلبة ستكون للطابع السياسي، بل إن الطابع الأمني لن يكون مرئياً حتّى.
ولا شك في أن جذور القرار الخاص بالفريق الديبلوماسي الحكومي تمتد إلى موقف الولايات المتحدة من “هيئة تحرير الشام”، المصنفة أميركياً وأممياً على قوائم الإرهاب، والتي خرجت حكومة دمشق من رحمها. وعلى الرغم من أن الخطاب الديبلوماسي الأميركي ابتعد في العلن عن هذه التسميات، فهو مستمر في تبنيها سرّاً، بل لعل هذه التسميات هي التي تشكل العمود الفقري للسياسة الأميركية في الملف السوري.
ثوابت غائبة
لا تنطلق السياسة الأميركية في هذا السياق من ثوابت شفافة وواضحة، بل تتخذ التصنيف ذريعةً للضغط والابتزاز، بغية استثمار ذلك في مواجهة التعقيدات التي انبثقت عن الملف السوري، وجعلته ينفتح على احتمال تفجُّر الصراعات فيه بين القوى الداخلية أو القوى الخارجية.
وبما أن واشنطن لم تمنح منذ البداية السلطة الانتقالية في سوريا “شيكاً على بياض”، إنما وضعت أمامها قائمة من الشروط والمطالب، أهمها التخلص من المقاتلين الأجانب والتعاون مع منظمة الأسلحة الكيميائية وتحقيق التشاركية في مؤسسات الحكم والإدارة… إلخ، كان لا بدّ لها من تجميع أدوات الضغط لضمان التزام السلطة الانتقالية الوفاء بتعهداتها.
وتدرك دمشق جيداً أن نزع الاعتراف الأميركي عن حكومتها سيجعل حصانتها ضد الضغوط التي تمارس عليها في أدنى درجاتها، ما سيدفعها إلى المضيّ قدماً في مسار براغماتي بات يغلّف حرفياً فاتورة المصالح الضائعة.
وفاقمت المجازر التي وقعت في الساحل السوري الضغوط على السلطة الانتقالية، التي باتت تبحث عن كسب الوقت لإبعاد كأس الاختبار الذي ستشكله نتيجة التحقيقات التي تقوم بها لجنة تقصي الحقائق، وهو سيكون الأخير في سلسلة الاختبارات، بدءاً بمؤتمر الحوار ومروراً بالإعلان الدستوري ووصولاً إلى تشكيل الوزارة، التي ظلّ نجاح السلطة في تجاوزها مشوباً بانتقادات أميركية لا تشي برضا واشنطن. وربما يأتي اختبار لجنة تقصي الحقائق كي يحدد النتيجة النهائية.

ثغرات في السيطرة
يجري ذلك بينما تظهر يوماً بعد يوم ثغرات إضافية في قبضة السلطة الانتقالية على زمام الأمور في مجالات عدة، منها السيطرة الميدانية على الأرض في بعض المحافظات والمدن، وهندسة قوات الجيش الجديد التي لا تزال عاجزة عن تجاوز شروخ الفصائلية والمناطقية، وكذلك ضعف الأداء في إدارة الاقتصاد ومؤسسات الدولة.
ويأتي الاستمرار في فرض العقوبات على دمشق، ورفض رفعها كلياً أو جزئياً على نحو ملموس، متوازياً مع تعميق الضغوط السياسية التي تجسدت أخيراً بقرار سحب الاعتراف من الحكومة، ليجعل من الصعب تحديد طبيعة الهدف الذي تسعى إليه السياسة الأميركية، إن كان مجرد ممارسة ضغوط لضمان مصالحها ومصالح حلفائها، أم يتعدى ذلك إلى محاولة رسم مسارات بديلة، قد يسلكها المشهد السوري مستقبلاً مع تغير الظروف.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات_النهار اللبنانية