د. عبد الحميد فجر سلوم
ما جاء في بيان قمة الناتو في فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، يوم 12 تموز / يوليو 2023 ، يُؤكِّدُ أن العالم قادمٌ على صراعات وتوترات لم يعرفها في أي زمنٍ مضى، مالم تتوقف الحرب في أوكرانيا ويتمّ التوصل إلى حل وسط يرضي كافة الأطراف، وعلى مبدأ لا مهزوم ولا مُنتصِر.. وهذا لا يبدو في الأفُق حاليا..
فدول الناتو، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والإصرار على توسيع الناتو، وتقوية قدراته العسكرية واللوجستية إلى أقصى درجة ممكنة، ليبقى ويستمر كأقوى تحالُف عسكري عرفهُ التاريخ، لن يجُرَّ العالم إلّا إلى مزيدٍ من الصراعات والحروب والتوترات وعدم الاستقرار..
وبعد أن كان الناتو بالعناية المُشدّدة في زمن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ويعاني من الموت الدماغي، كما وصفهُ الرئيس الفرنسي ماكرون في تشرين ثاني / نوفمبر 2019، نراهُ اليوم ينهضُ مُجدّدا مشحونا بروح التحدِّي والتباهي والتلاحُم ومشاعر القوة والعظَمة والغطرسة..
وهنا لا نُبالغ إن قُلنا، أنّ الحرب في أوكرانيا، هي من نفخت الروح بهذا الناتو.. ولستُ بصدد الدخول في تفاصيل ذلك الآن، وكيف..
**
من يقرأ البنود التسعين التي تضمّنها بيان قمة الناتو سيُدرِك ذلك مباشرة.. لقد قرأتُها بالإنكليزية، إذْ لم أعثر على ترجمة رسمية كاملة لها بعدْ باللغة العربية..
البند 28 يُشير إلى الإلتزام باستثمار 20% على الأقل من الميزانيات الدفاعية لدول الناتو على المُعِدّات الرئيسية، بما في ذلك البحث والتطوير ذات الصِلة.. وهذا يجب أن يقترن بـ 2% كحدِّ أدنى من الناتج المحلي الإجمالي السنوي على الإنفاق الدفاعي، بهدف الحفاظ على التفوق التكنولوجي، والاستمرار في تحديث وإصلاح قوات دول الناتو..
إذا نحنُ أمام زيادة هائلة بميزانيات الدفاع والإنفاق على التسلُّح.. أي أمام سباق تسلُّح جديد..
المادة 32 توضِّح أن الردع والدفاع هي في قلبِ الحِلف، مدعومة بالمادة 5 من معاهدة واشنطن، والروابط الدائمة عبر الأطلسي.. وأنه يتمُّ تحديث الناتو لعصرٍ جديد من الدفاع الجماعي، وأن الأعضاء متّحدون في التزامهم وعزمهم على الإنتصار ضد أي معتدٍ، والدفاع عن كل شبرٍ من أراضي الحلفاء..
وفي البند 33 يتمُّ التأكيد على ضمان وجود كبير ودائم للقوات العسكرية عبر دول الحلف على الأرض وفي الجو والبحر..
وجاء في البند 34 ، واستجابة لبيئة أمنية متغيّرة جذريا، فإننا نعزز الدفاع الجماعي للحلف ضد جميع التهديدات ومن جميع الاتجاهات. ولا يمكننا استبعاد احتمال شن هجوم على سيادة الحلفاء وسلامتهم الإقليمية. فمنذُ عام 2014 (سنة ضم روسيا لجزيرة القرم) وخاصة في قمة مدريد 2022، اتّخذنا قرارات لتعزيز موقفنا وتحديد مسار واضح للتكيُّف العسكري المتسارع . اليوم اتّفقنا على تدابير مهمة لزيادة تعزيز موقف الردع والدفاع لحلف الناتو في جميع المجالات، بما في ذلك تعزيز الدفاعات الأمامية وقدرة الحلف على التعزيز السريع لأي حليف يتعرّض للتهديد. سنُنفِّذُ هذه الإجراءات بالكامل ونحرم اي خصم مُحتَمل من أي فُرص مُحتمَلة للعدوان..
والغاية من استعراض هذه البنود من البيان هو لتوضيح إزدواجية المعايير التي تتعامل بها الولايات المتحدة وحلفائها.. فهُم يحقُّ لهم ما لا يحقُّ لغيرهم..
وفي البند 36 تمّت المُصادقَة على خطة عمل الإنتاج الدفاعي للحلف، وبنودها..
**
التصعيد هو العنوان الأبرز لمخرجات قمة الناتو في فيلنيوس.. ولكن ضد من؟. لا شكّا أنهُ ضدّ روسيا بالدرجة الاولى.. ثُم الصين، وإيران، وكوريا الشمالية..
فهذه الدول الأربع على علاقة متوترة مع الولايات المتحدة، وكلٍّ لأسبابها الخاصّة ولا علاقة لها بأسباب الأخرى، وحينما تزول هذه الأسباب ينتهي التوتُّر.. تتعاطفُ مع بعضها ضدّ واشنطن، والناتو، ولكنها ليست حليفة لبعضها.. أي لا يوجدُ بينها معاهدة أو ميثاق ينصُّ على أن العدوان على أحدها هو عدوانٌ على الجميع، على غرار حلف الناتو، وحلف وارسو سابقا.. ولذلك لا يوجدُ بينها من هو على استعداد للانخراط ميدانيا بأي حرب إلى جانب الآخر، مهما بلغت الأمور.. ورأينا كيف كانت كل دولة تنكُر الإتهامات الموجّهة لها بأنها تُقدِّم مُعدات عسكرية لروسيا.. فكل دولة من هذه الدول تريد أن تؤكِّد بأنها تنأى بنفسها عن الحرب الدائرة في أوكرانيا..
يبدو أننا في القرن الحادي والعشرين، أمام حُقبَة زمنية ستكونُ أخطر بكثير من زمن الحرب الباردة في القرن العشرين.
كيف ستنتهي؟. اللهُ أعلم.. ولكن نسمع بين الفينة والأخرى تهديدات بِحرب نووية، يُطلِقها دوما نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دمتري ميدفيديف..
وهكذا تصريحات ليست في مصلحة روسيا، فحتى أقرب أصدقاؤها، كما الصين، لم تتقبّل هذه التصريحات.. وليس من أحد في العالم يتقبلها، لأن الحرب النووية تعني فناء البشرية، ولن يسلم منها أحدا، لا روسيا ولا أصدقاؤها، ولا أعداؤها.. فهي انتحار للجميع.. أي كمَن يقتل خصمهُ ويقتل نفسهُ..
**
في قمة مدريد للناتو في حزيران 2022 ، صدرت (وثيقة المفهوم الإستراتيجي الجديد للناتو) واعتُبِرت فيها روسيا (التهديد الأكبر والمُباشَر لأمن الحلفاء)..
بينما لم تُعتبَر الصين كذلك حينها، وإنما هذه تشكِّلُ فقط (تحدّيا لِمصالح الحلف وقيمهِ) ..
ذات الرؤية ما زالت قائمة بخصوص روسيا، بل تعمّقت، وفي بيان قمة فيلنيوس كان لروسيا النصيب الأكبر من الإتهامات والانتقادات في بنود البيان البالغة تسعون بنداً، لاسيما في البنود 5 و 7 و 8 ، و 14 و 15 و 16 و 22 و 51 و 74 .. ولا أجدُ لزوما لِنقلِ محتواها في هذا المقال، لأنها طويلة، وكل بند يصلُح مقالا..
كما قدّم قادة دول الناتو في قمة فيلنيوس خطّة دفاعية شاملة لمواجهة روسيا.. وهذا يعني المُضي في زيادة التصعيد..
**
عموما حمّل البيان روسيا مسؤولية كل ما يجري في أوكرانيا، وتهديد الأمن والسلام والاستقرار في القارة الأوروبية.. بل في أماكن أخرى بالعالم.. وكأنّ الولايات المتحدة حَمَلا وديعا..
وأشار البيان أن روسيا زادت من حشدها، متعدد المجالات، ووجودها في منطقة البلطيق والبحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط، وتحتفظ بقدرات عسكرية كبييرة في القطب الشمالي. واتّهمها بالقيام بأنشطة استفزازية بالقرب من حدود الناتو، وإجراء مناورات واسعة دون الإخطار بذلك..
وتأجيج التوترات في الجِوار الجنوبي لحلف الناتو لاسيما منطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا والساحل..
بينما، المُفارَقة، في البند 44 يتمُّ تبرير الانتشار النووي للحلف في أوروبا، والإشادة بالقوات النووية الإستراتيجية للحلف، ولا سيما قوات الولايات المتحدة الأمريكية النووية، ويعتبرها الضمان الأعلى لأمن الحلف، فضلا عن القوات النووية لفرنسا وبريطانيا.. وهذا بحدِّ ذاتهِ يُعارضُ معاهدة حظر الأسلحة النووية..
كما تتمُّ الإشادة بالصواريخ الباليستية، كمُكمِّلة للقوات النووية..
ونعرف أن قوات الناتو، والقواعد الأمريكية منتشرة في كل بقاع العالم..
وفي ذلك ازدواجية معايير واضحة.. فكلُ شيء مبرّرٌ لأمريكا والناتو، وغير مُبرّر لغيره.
**
وأما بخصوص الصين فقد كانت اللهجَة هذه المرّة، تختلف عن لهجة بيان قمة مدريد الدبلوماسية 2022 ، وتطرق البيان للصين في البنود 6 و 23 و 24 و 25 و 55 ..
وجاء في البند 23:
(إن طموحات جمهورية الصين الشعبية وسياساتها القسرية المُعلَنة، تتحدّى مصالحنا وأمننا وقيمنا. والصين غامضة بشأن استراتيجيتها ونواياها وحشدها العسكري. وتضرُّ بأمن الناتو.. إنها تستخدم نفوذها الاقتصادي لخلق التبعيات الاستراتيجية وتعزيز نفوذها، وتسعى جاهدة لتقويض النظام الدولي القائم على القواعد، بما في ذلك المجالات الفضائية والالكترونية والبحرية..) ..
وكأنّ الولايات المتحدة لا تفعلُ شيئا من هذا؟.
**
وتطرّق البيان لإيران، وبرنامجها النووي، ووجّه لها اتهامات عديدة، منها دعم روسيا في الحرب بأوكرانيا، لاسيما في البندين 56 و 84 ..
وكذلك تطرّق إلى كوريا الشمالية في البند 57 ، مُكرِّرا ذات الخطاب المعروف فيما يتعلق بسلاحها النووي وتجاربها الصاروخية..
**
أما بخصوص منطقة الشرق الأوسط، فقد تمّ شملها مع أفريقيا، وجاء في البند 82
(أن الشرق الأوسط وأفريقيا منطقتان ذات أهمية استراتيجية.. وسنعملُ على تعميق مُشاركتنا السياسية وتواصُلنا في الدبلوماسية العامة، مع شركائنا القدامى في الحوار المتوسطي، ومبادرة اسطنبول للتعاون. كما سنزيد من تواصلنا مع المنظمات الإقليمية ذات الصلة، بما في ذلك الإتحاد الأفريقي، ومجلس التعاون الخليجي، وأن الحلف يُنفِّذُ حُزَم بناء القدرات الدفاعية للعراق والأردن وموريتانيا وتونس. وأنه سيتمُّ التواصل مع السلطات الأردنية لاستكشاف إمكانية إنشاء مكتب ارتباط لحلف شمال الأطلسي في عمّان)..
طبعا لم يأتي هذا البند المتعلق بالشرق الأوسط على أي ذكر لأكبر وأقدم مشكلة في المنطقة، وهي القضية الفلسطينية، ومساعي السلام، والحل على أساس الدولتين.. وهذا يُفهَم منهُ تراجُعا على هذا الصعيد..
**
في البند 83 ، تمّت الإشارة للعراق بشكلٍ خاص، وجاء فيه:
(أن الناتو وحلفائهِ سيبقون ملتزمين في دعم العراق، والمقدرة على تحقيق الاستقرار في البلاد. نحنُ ندرك الجهود المستمرة، والتقدم الذي تُحرِزهُ حكومة العراق وقوات الأمن العراقية لمحاربة داعش. إننا نشجعُ على إحراز مزيد من التقدم في حرب العراق ضد الإرهاب بجميع أشكالهِ ومظاهرهِ. تُواصلُ بعثة الناتو في العراق تقديم الاستشارات غير القتالية ودعم بناء القدرات للمؤسسات الأمنية العراقية في منطقة بغداد الكبرى وقد عمّقت التعاون مع وزارة الدفاع العراقية. وبناء على طلب من الحكومة العراقية فإننا ندرس توسيع مهمة الناتو في العراق لتقديم المشورة إلى وزارة الداخلية العراقية، بشأن الشرطة الإتحادية..) ..
إذا بعثة الناتو في العراق هي من تُشرفُ على بناء قُدرات المؤسسات الأمنية العراقية، وقبلها مؤسسات الجيش، واليوم مؤسسات الشرطة.. والتعاون عميق مع وزارة الدفاع العراقية..
فكيف تُوفِّقُ الحكومة العراقية بين التنسيق مع بعثة الناتو، وبين التنسيق مع إيران في الشؤون الأمنية، والعسكرية، داخل العراق؟.
**
في المادة 85 كان هناك ربطا مباشرا بين الأمن الأور أطلسي، وأمن الحلفاء في منطقة المحيط الهادي، والهندي، في شرق آىسيا.. وجاء فيها:
(منطقة المحيطين الهندي والهادي، مُهمّة للناتو، بالنظر إلى أن التطورات في تلك المنطقة يمكن أن تؤثِّر بشكلٍ مباشرٍ على الأمن الأوروبي الأطلسي. نُرحِّبُ بمساهمة شركائنا في منطقة آسيا والمحيط الهادي ــ أوستراليا، واليابان، ونيوزيلاندا، وجمهورة كوريا ــ في الأمن بالمنطقة الأوروبية الأطلسية، بما في ذلك التزامهم بدعم أوكرانيا. سنعزز حوارنا وتعاوننا بشكل أكبر للتصدي لتحدياتنا الأمنية المشتركة بما في ذلك الدفاع السيبراني، والتكنولوجيا والهجين، مدعوما بالتزامنا المشترك بدعم القانون الدولي، والنظام الدولي القائم على القواعد) .
**
كما تمّ التأكيد بالبند 73 على الشراكة الفريدة بين الناتو والاتحاد الأوروبي. وأن هذه الشراكة الاستراتيجية أساسية لأمن وازدهار شعوبنا، وللمنطقة الأوربية الأطلسية..
أمور أخرى عديدة تطرق لها البيان الختامي..
**
بالنهاية الجميع يعاني من هذه الحرب، وانعكست بشكل سيء جدا على شعوب الناتو، وعلى شعوب الإتحاد الروسي، وكافة شعوب العالم.. ولكن المسألة أصبحت مسألة كسر عظم، كما يُقال بالعامية..
الحرب هي عمليا أمريكية روسية، على ساحة أوكرانيا..
والرئيس بايدن يقول أن بوتين لن ينتصر.. والرئيس بوتين يقول أن بايدن لن ينتصر.. وكلٍّ في موسكو وكييف متمسِّكٌ بموقفهِ.. فموسكو ما زالت مُصِرّة على موقفها بالتمسُّك بالأراضي التي ضمّتها إليها في شرق أوكرانيا.. وكييف مُصِرّة على استرجاع هذه الأراضي، وفوقها جزيرة القرم، ولا تقبل حتى بتجميد الوضع حاليا.. والقرار الأخير في كييف هو لِواشنطن، وليس لحكومة أوكرانيا..
ولا شكّا أن كلٍّ منهما لهُ رهاناتهِ الخاصّة.. وكلٍّ منهما ماضٍ في استنزاف الآخر، ولكن إلى متى؟. الله أعلم..
هزيمة روسيا، تعني تقسيمها، وهذا هدف غربي تحدّث عنهُ كبار القادة الروس مرات عديدة.. وهزيمة الناتو تعني تفكُّكهِ ونهايتهِ .. فكيف سترسو الأمور، لا أحدا يعرف..
كاتب سوري وزير مفوض دبلوماسي سابق
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم