أسعد أبو خليل
مرّت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في مراحل عديدة وتغيّرت أنواع قياداتها. كانت الحركة في الثلاثينيات منقسمة بين أجنحة عائلة الحسيني والنشاشيبي (التي كانت قريبة من الهاشميّين). وكانت طبقة الحِرفيّين المهنيّين والمثقّفين تعمل من خلال حزب الاستقلال الفلسطيني. في ما بعد، نبذ الشعب الفلسطيني كل التيّارات السياسيّة التي قادته نحو النكبة. أعاد تشكيل أحزاب جديدة، أو انضوى في أحزاب أخرى موجودة: من البعث إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى حركة القوميّين العرب. ومنظّمة التحرير لم تجذبه في البداية لأنها كانت أداة للأنظمة العربيّة وهدفت إلى تسكين الغضب الفلسطيني العارم. بعد 1967، انطلقت مسيرة من العمل التنظيمي الفلسطيني الجديد. منظمات كان عمادها الإصرار على ضرورة الكفاح المسلّح كطريق أساسي (أو وحيد عند الثوريّين) لتحرير فلسطين. عدد التنظيمات كان كبيراً جداً والتنسيق بينها كان غائباً. كل المحاولات لجمع الطاقات كانت فاشلة وانتهت كأدوات لـ«فتح» (لكن اللوم يقع على كل التنظيمات). كان هناك دائرة عسكريّة في منظمة التحرير (ورأسها لسنوات قائد منظمة «الصاعقة»، زهير محسن، الذي قتله العدوّ في مدينة كان الفرنسيّة. ليس معروفاً إن كانت إقامته في كان من ضمن العمل العسكري الفلسطيني)، وكان هناك «الأمن الموحد» وكان أداةً فتحاويّة. التنظيمات انشقّت أكثر من مرّة. الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين انطلقت من رحم حركة القوميّين العرب، وانشقّت عنها الجبهة الديموقراطيّة والجبهة الشعبيّة-القيادة العامّة و«الجبهة الشعبيّة الثوريّة لتحرير فلسطين»، وغيرهم. ليس الموضوع هنا تقييم ما أُطلقَ عليه وصف «الثورة الفلسطينيّة»، ولكن الوصف كان بالمعنى المجازي الشعري وليس العملي. عرفات لم يكن يميّز في الخطاب أو البيانات بين الشعر والتقرير. فشلت كل هذه التنظيمات قبل أن تخرج من بيروت في 1982. الفشل هو الذي مهّد الطريق لدخول العدوّ إلى لبنان واقتلاع التجربة. خسرت «الثورة» القاعدة الشعبيّة اللبنانيّة وتُركت معزولةً من حلفائها المنتفعين. رُحِّلت عن لبنان في أذلّ نهاية لحركة تحرّر فلسطيني، مع أنّ عرفات، كعادته، تغنّى بنصر موهوم حقّقه (عصام السرطاوي، وكان تسوويّاً ساداتيّاً، سخرَ وقال إن النصر القادم سيذهب بنا إلى جزر فيجي).
انطلاقة «حماس» كانت نتاج تبلور مرحلة جديدة من العمل الفلسطيني. كانت الردّ على الهوس التسووي الذي حكم ياسر عرفات. صحيح أن عرفات لم ينبذ العنف (أو «الإرهاب»، حسبما أملت عليه القول وزارة الخارجيّة الأميركيّة) إلا عندما جعلت أميركا ذلك شرطاً للتفاوض معه. عرفات تعامل مع الكفاح المسلّح لكن ليس كطريق لتحرير فلسطين، كما قالت أدبيّات منظمة التحرير و«فتح». تعامل مع الكفاح كطريقة لكسب النفوذ التفاوضي فقط. لكن، كما قال برجنسكي عنه في مقابلة مع مجلّة «الدراسات الفلسطينيّة» في 1984: لم يكن عرفات جاداً لا في الكفاح المسلّح ولا في الديبلوماسيّة، فبقي يلعب على الحبل كالبهلوان.
«حماس» كانت عنصراً من عناصر الانتفاضة الأولى، ولكن ليس بالحجارة وحدها. هي أتت تكريساً لمنهج الكفاح المسلّح، وهذه الانطلاقة كانت مفاجئة لأن الحركات الإسلاميّة كانت مهادنة منذ النكبة، وأقامت صِلات قويّة مع أنظمة متحالفة مع أميركا، مثل السعودية والأردن والإمارات والكويت. حتى إسرائيل لم تكن تمانع في وجود الحركات الإسلامية التي انشغلت بالدعوة والقضايا الاجتماعيّة والتزمّت على حساب التحرير والجهاد. الحرب في أفغانستان أيقظت الحركات الإسلاميّة من سباتها وبدأت مسيرة جديدة تُقرن فيها العنف بالدعوة. سقوط الاتحاد السوفياتي أمدّ الحركات الإسلاميّة بثقة مفرطة بالنفس.
مسار «حماس» معروف، والجذور في سياق «الإخوان المسلمين» معروفة هي أيضاً. لكن «حماس»، مثل حزب الله، تغيّرت وتطوّرت وتعلّمت من التجربة. حزب الله كان مخيفاً في بداياته: هو (أو منظمات انضوت فيه لاحقاً) قام بأعمال نوعيّة لطرد الإسرائيليّين من لبنان، ومقارعة الأميركيّين فيه. لم يكن سهلاً أن تؤدّي أعمالك إلى إجبار الأميركيّين على الرحيل عن لبنان.
حركة «حماس» اليوم هي غير ما كانت عليه في أيامها الأولى (تماماً مثل تجربة الحزب). التنظيمان، مثلاً، نبذا معاداة اليهود، كيهود، وأعلنا في آخر وثيقة سياسيّة لهما أنّ عداءهما موجّه حصراً ضد الصهيونيّة وإسرائيل. وكان التنظيمان في البداية يجاهران بالعداء لليهودية، وحتى المسيحيّة. حسن نصرالله لبننَ الحزب ويمكن فهمه اليوم، لا بل انتقاده، من منظور أنه حزب لبناني صرف، كما يقول الخبير في شؤونه، بشير سعادة. ويمكن، أكاديميّاً ومنهجيّاً وسياسيّاً، فهم الحزب كظاهرة لبنانية أكثر مما يمكن فهمه كظاهرة إيرانيّة مزعومة. النظرة الأخيرة هي التي تعمّم سوء فهم الحزب وتأثيره. «حماس» أيضاً تعلّمت فهم المجتمع الفلسطيني الذي نبذ الطائفيّة منذ انطلاقة الحركة الصهيونيّة لعلمه أن زرع الشقاق بين المسلمين والمسيحيّين كان من الخطط السرّية التي وافق عليها حاييم وايزمان بعد زيارته إلى فلسطين في عام 1920، ولكنّ مسار الحركة اصطدم بسلطة أوسلو منذ البداية. عانى الأعضاء والمقاومون من بطش سلطة أوسلو ووحشيّتها ضدّهم. كانت مهمة سلطة أوسلو، ولا تزال، حماية إسرائيل من المقاومة الفلسطينيّة بأي ثمن. ياسر عرفات نفسه أمر باعتقال مقاومين وتعذيبهم. خرج أعضاء «حماس» من التجربة واعين للارتباط العضوي بين سلطة أوسلو وبين سلطة الاحتلال. لكن ما الذي يميّز حركة «حماس» عن سابقاتها في منظمة التحرير؟
أولاً، التعلّم من الأخطاء. أدركت الحركة أنّ عمليّات العنف العشوائي في الانتفاضة الثانية أتت بردود فعل عكسيّة حتى في نفوس بعض الفلسطينيّين والعرب. اتّسع صدر الحركة لسماع النقاش وانتهاج مسلك عسكري مختلف يركّز على الأهداف العسكريّة. وحتى في العمليّة الأخيرة، كان الهدف هو جنود الاحتلال لكن العمليّة نجحت أكثر مما توقّعت الحركة، فوقع عناصرها على عدد كبير من الجنود، كما أنّ فتح الحدود سمح لعناصر من تنظيمات أخرى بالخروج من الأسر وإلقاء القبض على ما وُجد من إسرائيليّين. لا نزال نجهل تفاصيل ذلك اليوم الذي هزَّ أركان الكيان.
مسار «حماس» معروف، والجذور في سياق «الإخوان المسلمين» معروفة هي أيضاً. لكن «حماس»، مثل حزب الله، تغيّرت وتطوّرت وتعلّمت من التجربة
ثانياً، الحسّ الأمني. كان غياب الحسّ الأمني هو مقتلة فصائل منظمة التحرير. كيف يمكن أن يصل جاسوس لبناني (وهناك من يرى أنه كان جاسوساً إسرائيليّاً) وليد قدّورة، إلى عضويّة اللجنة المركزيّة في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. وكان يمكن أن يُعفى عنه بعد صدور حكم بالإعدام بسبب روابط عائليّة في داخل الجبهة. قيادتا «حماس» والحزب تتمتّعان بحسّ أمني مرهف يحمي من الاختراق. ينسى الناس أنّ نصرالله لعب دوراً أمنياً كمسؤول في مرحلة عن أمن الضاحية، والسنوار كان مسؤولاً، شخصياً، عن تعقّب العملاء. أنيس النقاش تحدّث في كتابه الأخير عن حالة التسيّب الأمني والاختراق السهل التي وسمت تجربة منظمة التحرير. يروي هاني الحسين لهيلينا كوبان في كتابها عن منظمة التحرير كيف أن الآلاف انضمّوا لـ«فتح» بعد معركة الكرامة. لم تكن طلبات الانضمام تخضع لأي تحقيق أو تدقيق أو مساءلة. وكانت إسرائيل ترمي بمعتقلين سابقين عبر الحدود مع لبنان وكانوا يُستقبلون استقبال الأبطال. كنت دائماً أتساءل، كم منهم مبعوث من قبل العدوّ؟ «حماس» والحزب حميا أنفسهما من الاختراق الفظيع. حالات التجسّس الفردية لا تتناقض مع النجاح بصورة عامّة: لم نكن نسمع عن كشف الاختراقات في حالات منظمة التحرير. فشل العدوّ في العمليّة الأخيرة في الوصول إلى قيادة «حماس» يعود لغياب جواسيس «فتح» عن ساحة غزة. وقيادات «حماس» والحزب تتصلّب بالعقيدة الدينية وتتوقّع، أو تتقرّب من، الشهادة بشوق (ردة فعل محمد رعد على استشهاد ابنه نموذج لهذا التوق للشهادة).
ثالثاً، قادة الحزب و«حماس» شديدو البأس وحازمون وقساة غلاظ لو تطلّب الأمر. جبهة التحرير الجزائرية لم تكن لتنجح لو لم تكن هناك عمليّات رصد ومعاقبة شديدة للمتعاملين والمتعاونين. قادة منظمة التحرير كانوا شديدي اللين والتساهل وقابلين للانهيار السريع. قارِنوا انهيار أبو إياد في أيلول الأسود وارتماءه تحت أقدام الملك حسين، بحالة الصلابة للسنوار ومصطفى الديراني وعبد الكريم عبيد في الأسر الإسرائيلي. السنوار رفض التعامل مع الإسرائيليّين حتى في الأسر. هؤلاء، لو أُجيزَ القول، من طينة أخرى تماماً. هل يمكن أن تتصوّر أن العدوّ يتصيّد قائداً في الحزب أو «حماس» في مدينة على الشاطئ الفرنسي؟
رابعاً، طوّر الحزب و«حماس» نموذجاً فذاً من المقاومة العسكرية. ويقول بشير سعادة إنه من الإنصاف التذكير بأنه لم يكن لمنظمة التحرير من تجربة سابقة تستقي منها. كانت تبدأ من الصفر، فيما اعتمدت «حماس» والحزب على تجارب منظمة التحرير وخيباتها لبناء تجربة جديدة. درس التنظيمان التجارب السابقة وتعلّما منها كثيراً كما أنهما كانا أكثر جديّة في دراسة العدوّ ومعرفته، عسكرياً وسياسياً. محمود عباس كان مستشار عرفات للشؤون الإسرائيليّة.
خامساً، التعاون بين حركات المقاومة (حلفاء إيران) نموذج نادر في العمل السياسي والعسكري في لبنان وفلسطين. كانت الفصائل الفلسطينية تتحارب وتتنابذ باستمرار. الجبهة الديموقراطيّة والشعبيّة كانتا أقرب للأعداء. لكن «حماس» والحزب، تعاونا وتبادلا خبرات رغم الخلاف العقائدي والمذهبي. هذا التكامل انتقل في العلاقة مع «أنصار الله» في اليمن و«الحشد» في العراق، ما شكّل تجارب تنظيميّة عسكريّة على مستوى العالم العربي، وهذا لم تسعَ قيادة عرفات إلى صنعه.
سادساً، إنّ يوم 7 أكتوبر، بصرف النظر عن التقييم، يمثّل فذاذة عسكريّة يعترف بها العدوّ وحلفاؤه. هو لم يكن فقط نتيجة تقصير إسرائيل (هناك مبالغة في التركيز على التقصير من أجل التقليل من نجاح «حماس»). النجاح العسكري كان نتيجة تخطيط دقيق ودراسة مفصّلة وتحضير دؤوب وتمرين على مدى نحو سنة. وكانت الخلايا منفصلة عن بعضها لا تعرف وهي تتحضّر طبيعة المهمّة. وكل هذا التحضير لم يكن تحت أعين العدوّ أو الجواسيس في غزة. في زمن منظمة التحرير في لبنان، كان جيش العدوّ ينتظر متسلّلين حالما يقطعوا الحدود لأن المخبرين الكثر كانوا يزوّدون العدوّ بالمعلومات. توصّلت حركة «حماس» إلى مستوى مرتفع من الجهوزيّة (بالمعنى الحقيقي للكلمة، وليس بالمعنى الفارغ الذي يستعمله قائد الجيش اللبناني في خطبه المُكرّرة). تَرى ماذا جرى في يوم 7 أكتوبر وتتساءل إذا كان هناك تسابق بين الحزب والحركة على الإبهار في العمل العسكري.
سابعاً، قرّرت «حماس» أن تسعى بكل الوسائل إلى الخروج من السجن الكبير. حتى السفير الأميركي السابق، تشاز فريمان، تجرّأ وحيداً على وصف عمليّة «طوفان الأقصى» على أنها خروج عسكري من سجن كبير أو معسكر اعتقال. «حماس» أرادت حسم الوضع في غزة والاستيلاء على زمام المبادرة.
ثامناً، «حماس» أمام قرار مصيري يتعلّق بالتسوية السياسيّة. هي هادنت أوسلو كثيراً وغازلت كثيراً «السيّد الرئيس، محمود عبّاس»، وهو شيخ المتعاملين مع إسرائيل وقائد جواسيس الساحة الفلسطينية. على «حماس» أن تقرّر: هل هي تقبل أوسلو أم ترفضها بالكامل؟ الانتخابات كانت على أساس أوسلو وشهدت كيف أن أميركا و«فتح» وإسرائيل لم يحترموا النتائج عندما أتت في مصلحة «حماس». هل هي مع الدولة الواحدة أو الدولتيْن؟ قوّة «حماس» يجب أن تحسم الجدل لصالح تحرير كل فلسطين.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية