محمد عزوز
تمنيت لو أن القدموس ظلت تلك البلدة الوادعة ، تماما كما الوداعة التي تهيمن الآن على الجزء القديم منها ، لأن حمى العقارات لم تهيمن عليها إلا في حدها الأدنى .
والغريب أن الجزء الحديث منها والذي تنامى سرطانياً ، خلال العشر سنوات السابقة خاصة بعد تسميتها منطقة اعتباراً من عام 2008 وإحداث جامعة الأندلس الخاصة للعلوم الطبية فيها .
كما ساهم الأمان الذي ظل مخيماً فيها خلال فترة الحرب على سورية ونزوح الكثير من العائلات السورية إليها ، في حركة العقارات فيها ، وبدأ الغرباء يعرفون قيمتها السياحية والطبيعية ، ويشترون أو يستأجرون بيوتاً فيها ، حتى أهلها الذين هاجروا منها لهذا السبب أو ذاك عادوا يشترون بيوتاً فيها.
وتحول الكثير من الأطباء والمهندسين وعمال البناء وغيرهم ممن يعشقون رائحة النقود إلى متعهدي بناء وتجار عقارات ، حتى صرت لا تسمع في الجلسات إلا سير العقارات والملايين ، وصار سعر البيت فيها يضاهي أسعار البيوت في المدن الكبرى .
وباع بعض أهلها بيوتهم القديمة طمعاً بشقق سكنية في العمارات الجديدة .
حتى لو فعلوا ذلك يظل للبلدة القديمة نكهتها ورائحة التاريخ والعراقة فيها ، لا يشمها أو يتذوقها إلا العارف بهذه العراقة ، فالجو اللطبف وحده فيها لا يكفي ، وربما كان يخص الغرباء غير العارفين فقط ، أما أهلها الذين تركوا بيوت العراقة ، قد فقدوا الكثير وإن لم يحسوا بذلك الآن .
وبكيت عندما قرر أخي الأصغر بيع بيت أهلي الذي آل إليه بعد رحيل الأهل ، ولم ينفع بكائي أو احتجاجي ، لأنه المالك الحالي له ومن حقه قانوناً التصرف به ، ولم تنفعنا العواطف ولا الدموع ، كما لم يلتفت هو للذكريات والتاريخ ، بل طابت له رائحة الملايين التي وضعها الشاري بين يديه .
هذا الشاري الذي اشترى البيت ليس حباً بالقدموس التي انحدر منها أهله أيضاً ، بل لأنه سيستثمر البيت ، وسيحظى بدخل جيد ناجم عن تأجيره لطلاب الجامعة أو لمصطافين .
وظلت لي ذكرياتي في الزواريب المحيطة والقريبة من بيتي الحالي الذي يشكل الجزء الآخر من بيت الأهل ، بيت بنيته في ذلك المكان كي أبقى أشم رائحة الأهل والأجداد ، وأعيش ذكريات الطفولة الجميلة في هذا المكان أو ذاك .
السوق القديم هو الآخر لايحظى باهتمام الأهالي قبل الإدارات ، وتفرغ محلاته لتنتقل إلى الأسواق الحديثة بحجة الدخل الأفضل ، بينما والكل يعرف لو استثمرت بالشكل الصحيح لما قل فيها الدخل ، وأحد أكبر تجار العقارات في القدموس خرج من هذا السوق بمحله القديم فيه .
أخوتي وأهلي وأحبتي حافظوا على بلدتكم القديمة ، هي قدموسنا الأهم ، هي التاريخ والذكريات ، هي الرائحة الأذكى والأطيب صدقوني .. فرائحة الملايين زائلة ولاقيمة حقيقية لها ، ومثالكم دمشق القديمة التي رممت محلاتها وبيوتها القديمة وتحولت إلى أجمل الأماكن في العاصمة دمشق . وعادت مصدراً لدخل جيد فيها .
( الصورتان المرافقتان واحدة لحي في القدموس القديمة وأخرى لحي في الحديثة )